وما يشذ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروف ومكانه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئًا فيما ليس فيه شيء.
تأمل قوله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ "الطوفان والجراد والدم" وأثقلها "القمل والضفادع" فقدم "الطوفان" لمكان المدين فيها؛ حتى يأنس اللسان بخفتها؛ ثم الجراد وفيها كذلك مد؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئًا بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لماكن تلك الغنة فيه؛ ثم جيء بلفظة "الدم" آخرًا، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفًا؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب.
وأنت فمهما قلبت هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع؛ لو قدمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأغنتك أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أحالك ذلك عن قصد الفصاحة وقطعك دون غايتها، ثم لخرجت الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسواء؛ ليس يظهر أخفها من أثقلها؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيها ليس فيه إعجاز بطبيعته.
وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقص في أمثلته لأنه أمر مطرد، تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة الوضع ولن تستوي هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن ههنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث.