للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و"الأرجاء" لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعًا وترك المفرد -وهو الرجا أي: الجانب- لعلة لفظه، وأنه لا يسوغ في نظمه كما ترى.

وعكس ذلك لفظة "الأرض"؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسر الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجد لها كل فكر سجدة طويلة، وهي في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ولم يقل: وسبع أرضين؛ لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالًا، وأنت فتأمل -رعاك الله- ذلك الوضع البياني، واعتبر مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائع، وبالغ الأسباب، وأحكم ما قبله وما وراءه.

ومن الألفاظ لفظة "الآجر" وليس فيها من خفة التركيب إلا الهمزة وسائرها نافر متقلقل لا يصلح مع هذا المد في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلما احتاج إليها لفظها ولفظ مرادفها وهو "القرمد"١ وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألطف عبارة وأرقها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف يفضح الصبح, وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} فانظر، هل تجد في سر الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرع أو أبدع من هذا؟ وأي عربي فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يملكه حسه ولا يسوغه حقيقة نفسه ولا يجن به جنونًا ولا يقول آمنت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالقرآن معجزة٢؟ وتأمل كيف عبر عن الآجر بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله: "فأوقد" وما يتلوها من رقة اللام، فإنها في أثناء التلاوة مما لا يطاق أن يعبر عن حسنه، وكأنما تنتزع النفس انتزاعًا.

وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر؛ فإنها تحقر شأن فرعون، وتصف ضلاله، وتسفه رأيه، إذ طمع أن يبلغ الأسباب أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سلمًا، إلا شيئًا يصنعه هامان من الطين٣!


١ وهو في العامية "الطوب" أي: الطين المحرق الذي يبنى به.
٢ الجمهور على أن القرآن دليل النبوة، وهو الحق الذي لا ريب فيه. ولكن من المتكلمين من يرى غير ذلك، كأبي إسحاق النظام، فإنه قال: إن الله لم يجعل القرآن دليلًا على النبوة وعلى هذا الأصل بنى قوله: إن الإعجاز كان بالصرفة -كما تقدم في موضعه- فما أصح ما نقلناه ثمة من قول الجاحظ فيه: لو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف.
٣ في التعبير حكمة أخرى جليلة: وتلك أن فرعون يريد أن يبني صرحًا يبلغ به السماء فعبر بالإيقاد على الطين تهكمًا على فرعون؛ لأن البناء في مثل هذا لا يزال يرتفع بلا نهاية، وإعداد الآجر يجب أن يكون كذلك مستمرا باستمرار الإيقاد على الطين، ثم تشعر العبارة أن النتيجة لا شيء، فكأنه لم يخرج لا بناء ولا مبنيا به، وما هو إلا البدء والاستمرار في البدء.

<<  <  ج: ص:  >  >>