للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإن المراد بالآية الأولى، تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.

والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام, وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب١ تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".

وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب, ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعه ويقصر به علمه، ولا يدع مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مطلعه ومأتاه فيمضي القول على ما خيل؛ ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها؛ ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال, ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخطأ جهة ثالثة إلا أن يصر على الخطأ.

ومما لا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صبت على الجملة صبا, أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعًا ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة "اللب" فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء في مكانها "القلب"، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثم فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة؛ تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها؛ نصبًا أو رفعًا، أو جرا؛ فأسقطها من نظمه بتة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة "الجب"، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة.

وكذلك لفظة "الكوب"، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ "أكواب" الذي هو الجمع.


١ قال قبل ذلك على لسان يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} ولم يكن جاءه البشير فكان يحس به.

<<  <  ج: ص:  >  >>