للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عرب ولم يكن في الأصول عربيًا: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها؛ ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان.

وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة "ضيزى" من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ١ ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات٢ فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.

والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا، وفي تآلف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقدن بهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.

وإن تعجب فعاجب هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غنتين في "إذًا" و"قسمة" وإحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي, وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضًا.

ثم الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} ٣ فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية، زائدتان، أي: في الإعراب. فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام


١ يقال: ضازه حقه وضامه، أي: منعه ونقصه، فهي قسمة جائرة. والضيز: الجور.
٢ أي: دفنهن على الحياة كما كان من عادتهم.
٣ الضمير في "ألقاه" لقميص يوسف، وفي "وجهه" ليعقوب عليهما السلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>