للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون "أنذرهم" وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في "النذر".

وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبًا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم فيه النظر وأحكمته الروية وراضه اللسان، وليس منها إلا متخير مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يلتمس وعلى أي جهة يستطاع، وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها -فضلًا عن القرآن كله- وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية؟ والبليغ من الناس متى اعتسف هذا الطريق ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه فقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتناثرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لج في المكابرة لجت البلاغة في الإباء، فمثله كمن يمشي مستديرًا ويحسب أنه يتقدم؛ لأنه -زعم- لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده؛ ولأن نظره ما يزال ثابتًا فيما يستقبله!

إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يلم به من تلك الجهة أو يجعل طريقة عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهامًا ووحيًا، لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسر له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من التواء ومن مغمز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة من جملة أو بيتًا من قصيدة أو شطرًا من بيت، لا يطرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقًا؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضربًا موسيقيا، وينظم نظمًا مطردًا ويهدف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف، ويعصب الحركة بالحركة، ويجري بعضًا من بعض, فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ، فليس يستقيم في ألفاظ ذات معان، فهو لغو من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرنًا, ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة.

وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلًا بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجًا سريا، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقًا وأخفها تركيبًا, إذ تراه قد هيأ لها أسبابًا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات؛ إذا تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.

وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء؛ لأنه مما لا وجه

<<  <  ج: ص:  >  >>