للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام، وإلا لما أمكن حصر ما يلحن فيه أهلها، بل لما كان لهذا الحصر معنى لا في القليل ولا في الكثير.

أما بعد القرن الثالث فكان يؤلف في "لحن الخاصة" كالكتاب الذي وضعه أبو هلال العسكري المتوفى سنة ٣٩٥هـ وسماه "لحن الخاصة" وكتاب الحريري المسمى "درة الغواص، في أوهام الخواص" وقد وضع له الجواليقي تتمة؛ لأن اللحن بعد ذلك إنما كان يؤاخذ به خواص العلماء والأدباء -في كتابتهم لا في أقوالهم- أما العامة فكانت مناطقهم كما قلنا: لغة في اللحن لا لحنًا في اللغة!

ومما أعان على فصاحة العامية في صدر الإسلام، قيام الدولة الأموية العربية، وديانة العرب فيها بالعصبية، إلى سقوطها، حتى إن الموالي -وهم من الأوشاب والزعانفة في رأي العرب يومئذ لاحترافهم وخدمتهم إياهم كانوا يسمونهم بالحمراء١- أقبلوا على النحو والعلوم وأولعوا بها، حتى خرج منهم فقهاء الأمصار جميعًا في عصر واحد؛ ولولا خوفهم معرة اللحن ما ثبتوا على ذلك؛ لأنه إن كانت العرب قد أبقت عليهم فلأن خطبهم في ذلك لم يستفحل.

فلما جاءت الدولة العباسية وكان قيامها بنصرة الفرس -وخصوصًا أهل خراسان، حتى لقبوها بالدولة الخراسانية الأعجمية- ضعفت العصبية للعرب بما سكن من سورتهم وفثئ من حدتهم؛ فكان ذلك فتقًا في العربية أيضًا؛ ولم ينتصف القرن الثالث حتى اختلط العرب بالفرس والترك والفراعنة وغيرهم من طبقات الأعاجم الذين اتخذوا للدولة، وكان ذلك بدء شيوع الألسنة الحضرية التي هي لهجات العامية.

والبعد عن اللسان -كما قال ابن خلدون- إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغتة عن ذلك اللسان الأصلي أبعد؛ لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم، وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه، يبعدون عن الملكة الأولى. قال: واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق: أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل؛ فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة، والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه؛ فهي عن اللسان الأول أبعد، وكذا المشرق: لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولًا ودايات وأظآرًا ومراضع، فسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى، وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة، وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم


١ يريدون بالحمراء: الأعاجم، وكان العرب لا يكنون الموالي بالكنى "لأنها تشريف" ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، وإن حضروا طعامًا قاموا على رءوسهم "للخدمة". وإن أطعموا رجلًا ما من الموالي لسنة وفضله وعلمه، أجلسوه في طريق الخباز لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب.
وقد ألف الجاحظ كتابًا في الموالي العرب نقل عنه صاحب العقد الفريد في الجزء الثاني من كتابه فارجع إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>