للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضًا بعضها بعضًا.

ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب "منذ القرن الرابع" وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية -فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحًا لبقاء العربية المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلًا بالأمصار؛ فلما ملك التتر والمغل بالمشرق "في النصف الثاني من القرن السابع" ولم يكونوا على دين الإسلام، ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلًا يقع تعليمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من كلام العرب. قال ابن خلدون. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالبًا لها، فانحفظت ببعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق لها أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي؛ وكذا تدريسها في المجالس.

لهجات العامية وأسباب اختلافها:

وقد اختلفت لهجات العامية اختلافًا بينًا، ونهجت في كل مصر من الأمصار منهجًا متميزًا؛ بل هي قد جرت في ذلك مجرى اللغات المقتطعة من أصل واحد، كالعربية والعبرانية والسريانية، وكاللغات المشتقة من اللاتينية ونحوها مما هو من تكوين الزمن، وليس يخفى أن صنعة الزمن إنما تجري على المباينة والتنويع، ومدارها على إضافة الأعمار التاريخية في المصنوعات بحيث لا تنقطع الصنعة ما دامت لها مادة في الوجود؛ وذلك متحقق في كل ما ترى فيه آثار الزمن من أرقى أنواع الإحياء، كتكوين الأمم والأخلاق والعادات إلى أدنى أنواع الجماد كالجبال وغيرها؛ فالجبل من ذرات مجتمعة، والأمم كلها من أصل واحد، واللهجات العامية كافة من العربية الفصحى؛ ولكن الزمن لم يحفظ في الجميع إلا نسبة المادة فقط، فكأن كل يوم من الدهر إنما هو عامل مستقل يترك تأريخ عمله في كل الموجودات.

وإنما اعتبرنا اللغات العامية بسبيل الأعمال الزمنية؛ لأنها مطلقة غير مقيدة بالقيود الثابتة، كالكتابة والقواعد العلمية، ونحوها، مما يعتبر حدا للعمر التاريخي؛ فإن ما كتب لا يتغير، وما لا يتغير فقد فرغ منه الزمن؛ لهذا لا يمكن أن تكون اللغات العامية مستقرة على حالة واحدة في كل مصر من الأمصار من عهد نشأتها، بل لا بد من تغيرها في المصر الواحد جيلًا بعد جيل، ولولا هذا التغير ما تباينت في الجملة؛ لأن جميعها راجع إلى لغة واحدة وهي العربية الفصحى؛ وإذا أردت أن تعتبر ذلك فالق رجلًا من المعمرين في العامة، فإنك تلقى فيه تأريخ طبقتين أو ثلاث من هذا التغير اللغوي.

وليس يمكن ألبتة تأريخ هذا التغير في الشعوب التي تنطق باللهجات العامية على وجه من التفضيل وضرب واضح من البيان؛ لأن هذه اللهجات غير معروفة، وقد جهدنا كثيرًا في البحث فلم نعرف أن أحدًا نقل منها أمثلة في أدوارها الماضية؛ لأنها لغة الحاجة الراهنة، فلا يتصرف فيها بالتفنن

<<  <  ج: ص:  >  >>