للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في العبارات وتشقيق الألفاظ وما إلى ذلك مما ذهب الفصيح بمزيته؛ إلا ما يكون في بعض آدابها: كالموالي، والزجل، والشعر البدوي، وغيرها؛ وهذه الأنواع كلها يتوخى فيها أقرب الوجوه إلى الفصيح، وأكثر القائمين عليها من الفصحاء، وإنما يأتون بها تفننًا في وجوه الكلام. وقد وقفنا على أشياء كثيرة منها في عصور مختلفة إلى عصرنا هذا، فلم نر بينها على تباين جهات القائلين إلا فروقًا قليلًا في الصيغ العامية، وألفاظًا نادرة من اللغة البلدية، كان أكثر ما أصبناه منها في ديوان ابن قزمان الأندلسي "رأس الزجالين كما سيجيء في بابه" على أن شعر البدو وحده يمتاز بتصوير اللهجة البدوية.

بيد أننا وقفنا على قاعدة واحدة من قواعد عامية شرق الأندلس في القرن السادس، وهي مثال من شذوذ التصرف العامي الذي أومأنا إليه. قد نقل السيوطي "في بغية الوعاة" في ترجمة الحافظ أبي محمد بن حوط الله المتوفى بغرناطة سنة ٦١٢هـ في تفسير هذا اللقب "حوط الله": قال ابن عبد الملك: كأنه مصدر حاط يحوط مضافًا إلى الله تعالى ... "وذكر شيخنا أبو الحكم أن أصله حوطلة، مصغر حوت مؤنث على لغة شرق الأندلس؛ فإنهم يفتحون أول الكلمة من نحو: الحوت والسعود وينطقون بالتاء طاء -فيقولون في حُوت: حَوط- ويلحقون آخر المصغر لامًا مشددة مفتوحة في المؤنث مضمومة في المذكر، وهاء ساكنة؛ فيقولون في تصغير حوت: خَوْطلّة، وحوْطلّه".

فمن الذي يسمع "حَوطلُّه" في هذه الأيام، ويفهم أن المراد بها تصغير حوت؟ وقس على هذه الطرفة الغريبة ما لا سبيل إلى العثور عليه.

وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته ما لا سبيل إلى العثور عليه.

وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته يرجع إلى أربعة أسباب:

١- وراثة المنطق: فإن التقليد في حكاية اللغة أصل طبيعي في الإنسان ولما بدأ الفساد والاضطراب في كلام أهل الأمصار، كان أهل كل مصر يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب١. قال الجاحظ: ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر ... قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة في أهل مكة، فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم. أنتم تسمون القدر برمة، وتجمعونها على برام، ونحن نقول قِدر، ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: ١١] وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علِّيَّه وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة، ونجمعها على غرفات؛ وقال الله تبارك وتعالى: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: ٢٠] وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: ٣٧] .. إلى أن عد عشر كلمات.

فحكاية الألفاظ واقتباس الأخف من اللغات -وإن كان أضعف وأقل استعمالًا في أصل اللغة- هو من خواص العامة: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، فضلًا عن أن


١ المراد باللغة هنا الألفاظ المتوارثة مما يكون من وضع القبيلة أو مما داخل كلامها.

<<  <  ج: ص:  >  >>