للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحكموا اللهجات العربية نفسها، كما وهم بعضهم في استدلال بالمنطق على النسب، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه.

وكذا يقال في حكايتهم ألفاظ الأعاجم؛ كالذي كان في لغة أهل المدينة مما علقوه من الفرس النازلين بهم، وفي لغة البصرة إذ نزلوا بأدنى فارس وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الكوفة إذا نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الشام إذ كانوا من بقايا الروم، وفي لغة مصر إذ كانوا من بقايا القبط؛ وكذلك في لغة الأندلس والمغرب؛ وهذا أيسر أسباب الاختلاف التي أشرنا إليها.

٢- علل الوراثة وطبيعة الإقليم: وذلك أن الناس يختلفون اختلافًا طبيعيا في كيفية النطق بما يكون في ألسنتهم من عيوب الوراثة: كاللفف، واللجلجة، والغمغمة، وما إليها؛ وبذا تختلف الكلمة الواحدة باختلاف الناطقين بها، حتى كأن فيها لغات كثيرة وهي لغة واحدة؛ وهذا فضلًا عن أن اللغات الأعجمية: كالفارسية والرومية والنبطية ونحوها؛ تصنع الألسنة على طرق متباينة بما فيها من التباين في المنطق بحسب الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها مما يكون في اللغات كزّا أو دِمثًا بحسب الأقاليم، حتى كأنه صورة ما بين الأمكنة من التباين الطبيعي؛ إذ اللغة صورة نفسية للإنسان، والإنسان صورة نفسية للإقليم.

وعلى هذا تجد منطق الإنجليزي لعهدنا ... كأنه نفخ آله تدار بالفحم الحجري ... وتكاد تحسب منطق الفرنسوي غناء موسيقيا؛ وهكذا مما لو تدبرت حقيقة الاختلاف فيه لرأيتها دلالة طبيعية على اختلاف الأقاليم، كأن الطبيعة تَسِم الألسنة كما تَسِم الوجوه، وكأنها مصنع إنساني فلا يخرج منه كل إنسان إلا برقمه وسمته؛ ولهذا السبب صارت كيفية النطق كأنها تنتشئ لغة أحيانًا، وصارت اللهجات العامية تختلف في المصر الواحد بل في البلدين المتجاورين، كما تراه في سوريا ومصر، وكما حدثوا به عن عرب تونس، فإن كل قبيلة هناك على ما يقال تتميز بخواص منطقية، حتى كأن كلام الواحد منهم انتساب صريح لقبيلته.

ومما لا نشك فيه أن العرب أنفسهم كانوا يعرفون تأثير الإقليم على فصاحتهم، ويعتبرون اختلاف ألسنتهم بهذا السبب. وقد وقفنا على ثَبَت لذلك، وهو ما رواه القالي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: لقيت أعرابيا بمكة، فقلت له: ممن أنت؟ قال: أسدي. قلت: ومن أيهم؟ قال: نهدي. قلت: من أي البلاد؟ قال: من عُمان. قلت: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنا سكنا قطرًا لا نسمع فيه ناجخة التيار١. قلت: صف لي أرضك. قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صردح، ورمل أصبح٢. فكأنه أراد أن لغته إنما جانست هذه الطبيعة في نقائها جفائها، فمن ثم كانت فصيحة خالصة.


١ ناجخة التيار: صوته، وكأنه أراد ما يلازم البحار والأنهار من الرطوبة والخصب وخصال الطبيعة، وقد ثبت لفلاسفة التاريخ أن مواطن الحضارة إنما تكون على الشواطئ والشطوط.
٢ السيف: شاطئ البحر، والمراد هنا ما يشبهه، والأفيح: الواسع، والصحيح: الصحراء، والصردح: الصلب، والأصبح: الذي يعلو بياضه حمرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>