٣- الإعراق في العجمة: فإن العجمة تصنع اللسان كما قلنا؛ ولذلك فهو إذا تناول الألفاظ العربية أداها على الوجه الذي يستقيم له وإن كان معوجًا وتصرف فيها بالحذف والقلب والإبدال، ومزجها بمادة العجمة حتى تنقلب إلى رطانة أو ما يشبهها, ولذا قال ابن خلدون: ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مُضَر، قصّر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية حصول ملكتها، لتمكن المنافاة حينئذ. قال: واعتبر ذلك في أهل الأمصار، فأهل أفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم.
ولقد نقل ابن رشيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له:"يا أخي ومن لا عدمت فقده ... أعلمني أبو سعيد كلامًا أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعافنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج، وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلًا ليس من هذا حرفًا واحدًا، وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله"١.
"هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيه ما ذكرنا؛ وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد "سنة ٧٧٩هـ" ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف، وأكثر ما يكون فيه الشعراء طارئين عليها..... وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظمًا ونثرًا ... وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية "في القرن الخامس" وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص ذلك، شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض ... وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، "بما هم عليه من معاناة علوم اللسان" ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلًا للغة أهل الأندلس. والبربر في هذه العدوة هم أهلها ولسانهم لسانها، إلا في الأمصار فقط، وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم، بخلاف أهل الأندلس ... ".
قلنا: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جشأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
قال: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جسأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
ومما يجري مجرى الإعراق في العجمة، ضعف اللسان ورخاوته بحيث لا يحتمل الكلمات التي
١ ليس هذا اللحن القبيح والخلط السخيف إلا من التباصر بالفصيح على ركاكة في الطبع، وذلك أمر فاش في فصحاء الجهال، وقد أذكرنا هذا الكتاب ما حدث به العسكري عن الأنصاري، قال: قلت لبعض الكتاب: ما فعل أبوك بحماره؟ قال: باعه "بكسر العين والهاء" قلت: فلم تقول: باعه؟ قال: وأنت فلم تقول بحماره؟ "بكسر الراء والهاء". فقلت: أنا جررته بالباء الزائدة، قال: فمن الذي جعل باءك تجر وبائي أنا لا تجر؟ "يريد الباء التي في لفظ باعه"!