تتألف من أحرف كثيرة، أو تكون مركبة تركيبًا غير مستخف، فيحصل الذهن من الكلمة صورة مجملة تتركب من أخف أحرفها، ثم تصاغ عن طريقتي القلب والإبدال بحيث تخرج كأنها وضع جديد، وأكثر ما تصيب أمثلة ذلك في لغات الأطفال وألفاف العوام الذين لا مران لهم على تصريف الكلام والتقلب في فنونه، وإذا التمست ذلك في كلامهم أصبت كثيرًا من أمثلته، وتراهم فيه يختلفون ضعفًا وقوة، فلا بد أن تكون طائفة من ألفاظ العامية قد جرت في أصلها على هذا الوجه.
٤- مخالطة الأعاجم: وهذا السبب مما ينوع مادة العامية تنويعًا محدودًا؛ لأنه مقصور على ما يقتبسه أهل الأمصار ممن يلابسونهم من الأمم المستعجمة، كأسماء الأدوات ومرافق الحياة ونحو ذلك مما لا أصل له في مواضعاتهم واصطلاحهم، وهو الدخيل بعينه إلا أن العامية تحيله إليها وتلحقه بمادتها كيف كان ما دامت لها حاجة إليه -وهي لغة الحاجة كما قلنا- فإذا مضى وقته أو انقطع سببه أهملته فتنزل منها منزلة الألفاظ المماتة، وذلك كأسماء الثياب التي كانت مستعملة في مصر لعهد المماليك مثلًا وما يجري مجراها من الألفاظ الفارسية والتركية والكردية وغيرها.
بيد أن الأمصار تختلف في هذا الاقتباس أيضًا بحسب الأسباب الثلاثة التي قدمناها، فمنها ما لا يتناول أهله إلا الألفاظ التي تمس إليها حاجتهم ثم يصقلونها ويعربون عجمتها ويخففون من غرابتها بما استطاعوا من المجانسة؛ وهؤلاء هم الذين بقيت لغتهم أقرب إلى العربية، كأهل مصر.
ومن أهل الأمصار من يذهبون في ذلك مذهبًا وسطًا لتكافؤ تلك الأسباب فيهم، كعامة الشام؛ ومنهم من يأخذ في ذلك كل مأخذ، كأهل طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش، على تفاوت قليل بينهم؛ فقد أثبت الذين عنوا بدراسة هذه اللغات من المستشرقين١ أن الجزائريين ينقلون الألفاظ الفرنسوية أقبح نقل، حتى ليتعذر أحيانًا ردها إلى أصولها "وفي لغتهم ألفاظ تركية أيضًا، وقليل من الإسبانية والإيطالية" وإن في منطق التونسيين كثيرًا من الألفاظ الفرنسوية والتركية والإيطالية، وأن عامية المراكشيين خليط من العربية والبربرية والفرنسوية والإيطالية والإسبانية.
وجماع القول إنه لا بد من المجانسة الطبيعية في اقتباس الدخيل؛ فكلما رقت عذبات الألسنة ولانت جوانبها، كان الدخيل بحسب ذلك في منقطها؛ ومن ثم لا تسرف فيه بل تقف منه عند حد الحاجة. ولقد رأينا رجلًا من المعمرين في بعض القرى المصرية لا ينطق لفظة "البوليس" للشرطة إلا هكذا: "البلوص"، ولا يرجع عن لحنه مهما راجعته؛ لأن البلوص في اصطلاحهم "بلوص الزمارة، وهو هنة من القصب تشق على وجه معروف ثم توضع في رأس اليراع المثقب" فكأنه استروح لهذا الوضع الثابت في لغته فألحق به الوضع الطارئ عليها وترك تعيين الدلالة للقرينة, وبخلاف ذلك ترى الدخيل في المناطق الجاسية والألسنة الكزة كما أشرنا إليه.
١ أولع كثير من هؤلاء الفضلاء بدرس اللغات العامية وضبط قواعدها وتعيين أصولها وإحصاء أنواع الدخيل فيها على تباين أمصارها، ولهم في ذلك كتب ورسائل لا حاجة إلى ذكرها؛ لأننا التزمنا الإيجاز في هذا الفصل العامي، إذ هو ليس من غرضنا وإنما استطردنا إليه لاتصاله بالكلام على اللحن وفساد اللسان.