للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد بقيت عامية البدو أقرب إلى الفصيح من سائر اللهجات، لقلة مخالطتهم للأعاجم، ولا يزالون على حيال لغات آبائهم إلا في الزيغ عن الإعراب، وإلا في ملكة الوضع ونظام اللغة١ ولهم في عاميتهم المحافل والمجامع والخطباء والشعراء؛ وقد اعتبر ابن خلدون تغير ألسنتهم من قبيل ما تغير في لسان مضر عن موضوعات اللسان الحميري "أي: تغيرًا قياسيا في الملكات"؛ وذلك بعض ما وهم فيه، وإنما استدرجه الغلو في الرد على "خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق" كما يقول، حيث يزعمون أن البلاغة لعهده قد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانيه إلخ. وإنما نظر النحاة إلى معنى كمالي في الطبيعة، ونظر ابن خلدون إلى الطبيعة في معناها؛ فإن اللغة من الملكات المتوارثة، وشرط الكمال في الوراثة ارتقاء النوع وتحسينه، إذا كان العرب قد ورثوا لغتهم ثم أضافوا إليها أسبابًا كثيرة من معاني الكمال وورثوها أعقابهم فنقص هؤلاء من كمالها ونكروا من محاسنها، أفلا يكون ذلك خليقا بأن يسمى فسادًا باعتبار المعنى الكمالي وإن كان عن أسباب طبيعية ثابتة.

ولما تعطلت ألسنة البدو من الإعراب تصرفت في الكلام على غير نظام، فاختلفت من ثم لهجاتهم، حتى لتسمع العربي منهم فيغطي منطقه عندك على ما يعطيه كلامه؛ فإذا هو فصل ألفاظه رأيتها عربية صريحة؛ وقد سمعنا بعض شعرائهم من المعاصرين ينشد في رثاء الحسين عليه السلام شعرًا بدويا مطلعه:

تمنتن بلفين فوق احصنا ... يوم كربلا وونجيه قبل الجنا

وألقى الشطر الأول متلاحق الكلمات مختلس الحركات فلم نفهم منه شيئًا حتى كشف لنا عن معناه، فإذا "تمنيتني بألفين فوق أحصنة" يريد نجدة الحسين عليه السلام بفرسانه قبل أن يستشهد؛ وانظر أين ما نطق مما أراد، وبهذا تتبين ما قدمناه، من أن كيفية النطق قد تنشئ لغة أحيانًا.

هذا ما نراه في أسباب اختلاف اللغات العامية، وهي في جملتها تاريخ طبيعي لهذا الاختلاف، غير أن كل سبب منها في تفصيله يحتمل أبحاثًا مستفيضة بما يلتمس له من الأمثلة في اللهجات المتباينة على كثرتها، ثم ما يستقصى مع ذلك من حوادث التاريخ الاجتماعي التي أنشأت اللغة إنشاء وجعلت لها في كل مصر معنى متميزًا، وفي كل بلد هيئة مقومة وصفة بينة، حتى كأن لغة الأمة على الحقيقة أمة من اللغة.


١ قال ابن خلدون: إن هذا الجيل الباقين "يعني البدو" معظمهم ورؤساؤهم شرقًا وغربًا في ولد منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس بن غيلان، من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور، قال: وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر.
ومن أراد أن يقف على أنساب بقايا العرب المتفرقين في مصر والشام والمغرب فعليه بما نقله القلقشندي من ذلك في الجزء الأول من كتابه "صبح الأعشى" ثم برسالة المقريزي "البيان والإعراب، عن النازلين بأرض مصر من قبائل الأعراب" وكلاهما مطبوع. وهذا غير ما يكون لمن يلتمس التحقيق فيقابل بين ما في الكتابين وما في الأصول العامة من كتب الأنساب.

<<  <  ج: ص:  >  >>