هذا مع جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة؛ وإن تأملت شعره فضلته، إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء. وقال: فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبًا "ص١٠ ج٢: الحيوان" وهذه الصفات هي التي تذكر في شعر الصيد والطرد؛ ولانصراف المولدين عن حقائق الموصوفات كانوا يسمون الأوصاف الشعرية بما يجري مجرى العويص "ص٢٢٨ ج٣: اليتيمية" وجعلوا لبعض التشبيهات ألفاظًا سموها بالألفاظ الملوكية "زهر الآداب ص٥٣: على هامش العقد الفريد" وهي خاصة بوصف ما يكون عند الملوك من أدوات الترف والنعمة.
أما مشاهير الوصافين في تاريخ الأدب جاهلية وإسلامًا فهم وإن كانوا يجيدون أكثر الأوصاف لكنهم اشتهروا بأنواع غلبت عليهم الإجادة فيها، فاشتهر من نعات الخيل امرؤ القيس وأبو دؤاد وطفيل الغنوي والنابغة الجعدي، ومن نعات الإبل طرفة وأوس بن حجر وكعب بن زهير والشماخ، وإن كان أكثر القدماء يجيدون وصفها؛ لأنها مراكبهم؛ وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس لها، ولذلك سمي راعيًا؛ وأما الحمر الوحشية والقسي والنبل فأوصف الناس لها الشماخ، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئًا من شعره في الحمر فقال: ما أوصفه لها! إني أحسب أن أحد أبويه كان حمارًا.... وأما الحمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس، واشتهر أبو نواس وابن المعتز أيضًا بصفة الصيد والطرد، ولا يذكر مع امرئ القيس في منزلته من اخترع التشبيه إلا ابن المعتز، وكان ذو الرمة أوصف الناس لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، وهو رئيس المشبهين الإسلاميين، وكان يقول: إذا قلت كأن..... ولم أجد مخلصًا منها فقطع الله لساني! وقد اشتهر بوصف الطبيعة الوحشية أيضًا عبيد بن أيوب العنبري، وكان نافرًا من الإنس جوالًا في مجهول الأرض، فاستغرق ذلك شعره "ص٥٠ ج٦: الحيوان" ومن الوصافين المتفننين في الأوصاف علي بن إسحاق المعروف بالراجحي المتوفى سنة ٣٥٢هـ، وأبو طالب المأموني المتوفى سنة ٣٨٣هـ وله أشياء كثيرة فيما يجري مجرى العويص، واشتهر كشاجم بآلات المنادمة، والصنوبري بالروضيات، وابن خفاجة الأندلسي بأوصاف الطبيعة الحضرية وابن حمديس الصقلي بأوصاف البرك والمياه والأنهار، وسنذكر كلمة عن أوصاف الأندلسيين متى وصلنا إلى تاريخ الأدب الأندلسي إن شاء الله.
والوصف باب من الشعر قلما تجد شاعرًا لا يحسن منه شيئًا أو أشياء، ولكن هؤلاء الذين عددناهم قد ذهب لهم بالأوصاف التي غلبت عليهم الإجادة فيها صيت بعيد وذكر، ولم يكن مثل ذلك لمن جاءوا بعدهم وإن أحسنوا في أشياء كثيرة، إما لأن الإجادة لم تغلب عليهم في نوع دون آخر، وإما لإهمال الأدباء والمؤرخين أن يعينوا لهم مثل تلك الأوصاف. والله أعلم.