على أنهم في ذلك جميعه إنما كانوا يتوسعون فيما يتعلق بالهيئة الخاصة، والمعاني متعلقة بالحالة العامة؛ فإذا وصفوا الناقة مثلًا وهي ذات هيئة خاصة مميزة بأجزائها أتوا على هذه الأجزاء واستغرقوا كل ما يتعلق بالهيئة؛ وحسبك أن تقرأ قصيدة التغلبي في وصف القطاة، وقد رواها الجاحظ وقال: إنها أجود قصيدة قيلت في القطاة "ص١٦٩ ج٥: الحيوان" وإنما كانت كذلك لاستغراقها كل أجزاء الصفة بحيث تصورها تصويرًا حيا، ولكنهم إذا وصفوا حربًا انصرفوا عما فيها من المعاني العامة وردوها إلى النوع الأول فجزءوها أجزاء واعتبروها هيئة، فربما وصفوا منها الخيل وفرسانها وأدوات القتال وذكروا الصفة العامة للحرب، من النقع والدماء والطير التي تتبع القتلى ونحو ذلك مما ترد جملته إلى أجزاء مفردة بأعيانها، ولكنهم لا يصفون حالة المتقاتلين مما يبنى على معاني النفس وتقام به فلسفة الإنسانية، لأن ذلك بعيد عن نظام اجتماعهم، ولو اقتضاه الاجتماع لاهتدوا إليه؛ ولهذا السبب عينه لم يؤثر عنهم شيء في الأوصاف التاريخية التي يستمد منها الشعر القصصي، وقد ذكر شعراؤهم واقعة الفيل وسيل العرم وغيرهما "انظر ج٧: الحيوان" ولكنهم لم يحتالوا على أن يصفوا ذلك بمعانيه العامة في قصة أو شبه قصة، كما رأيتهم يحتالون على إبراز الصفات الطبيعية ويتكلفون لذلك نوعًا من القصص على ما سلف بيانه*. وقد تجدهم يزحمون أجزاء الهيئة ويبالغون في استقصائهم حتى تقصر الألفاظ عن بسط المعنى وتترك في التصوير مواضع للنظر والفكر، كقول الشماخ يصف أرضًا تسير النبالة فيها:
تقعقع في الآباط منها وفاضها ... خلت غير آثار الأراجيل ترتمي
قال قدامة: فقد أتى هذا البيت بذكر الرجالة وبين أفعالها بقوله: "ترتمي"، ومن الحال في مقدار سيرها بوصفه تقعقع الوفاض، إذ كان في ذلك دليل على الهرولة أو نحوها من ضروب السير، ودل أيضًا على الموضع الذي حملت فيه الرجالة الوفاض، وهي أوعية السهام، حيث قال "في الآباط" فاستوعب أكثر "هيئات" النبالة وأتى من صفاتها بأولادها وأظهرها عليها، وحكاها حتى كأن سامع قوله يراها "ص٤١: نقد الشعر" ولم يلتزم المولدون سنن العرب في الوصف، بل قلبوه إلى التشبيه، وبينهما فرق عند العرب، وهو أن الوصف إخبار عن حقيقة الشيء، والتشبيه مجاز وتمثيل؛ لأنه مبني على أن يوقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، إذ لا بد أن يكون بين المشبه والمشبه به اشتراك في معان تعمهما ويوصفا بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها، فهو يدخل في الوصف كما ترى وليس في الحقيقة.
ومن أجل ذلك بالغوا في أوصافهم وجاءوا بالتشبيه المفرط والبعيد، وكأن هذا شيء اقتضته حضارتهم المبنية على الترف وتمويه الأشياء بالزخرفة، وقل منهم من يصف عن علم كأبي نواس في أوصافه للكلاب واستغراقه في سنها؛ لأنه كان عالمًا راوية، وكان قد لعب بالكلاب زمانًا وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب؛ قال الجاحظ: وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه؛
* قلت: لعله كان يقصد أن يكون موضع هذا الفصل مبحث "الشعر القصصي" ولكنا رتبنا فصول هذا الباب على ما أشار إليه في مبحث "تنوع الشعر وفنونه" ص٥١ من هذا الجزء، فلم نتنبه لهذه العبارة إلا من بعد.