وعلى ذلك يؤول كل ما ورد في أوصافهم من أمثال تلك المعاني التي يستقصون بها أجزاء الصفة وأساليب التركيب، وهي عامة في الشعر الجاهلي والطبقة التي تليهم من الإسلاميين، ومن أعجبها قول الراعي حين أراد أن يصف لون الذئب:
متوقع الأقران فيه شهبة ... هش اليدين تخاله مشكولا
كدخان مرتجل بأعلى تلعة ... غرثان ضرم عرفجا مبلولا
المرتجل: الذي أصاب رجلًا من جراد فهو يشوبه، وجعله غرثان؛ لأنه على طول الغرث لا يختار الحطب اليابس على رطبه، فهو يشويه بما حضره. وأدار الراعي هذا الكلام ليكون لون الدخان بلون الذئب الأطحل متفقين "ص٢٤ ج٥: الحيوان".
ومن تفاوتهم في الأساليب قول الشماخ في صفة الحر:
كأن قتودي فوق جاب مطرد ... من الحقب لاحته الجداد الغوارز
"الأبيات ... ص٢٨ ج٥: الحيوان". قال الجاحظ: ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدمان الشماخ بغاية التقديم. وسجد الفرزدق مرة إذ سمع رجلًا ينشد بيتًا للبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
فقيل له: ما هذا؟ قال: موضع سجدة في الشعر أعرفه كما تعرفون مواضع السجود في القرآن! "ص٢٧٥: سرح العيون".
ولما كان الوصف عند العرب أشبه بالحقيقة كما مر، كان الشاعر منهم لا يتعاطى إلا ما يحسن من ذلك ضرورة، وقد يشارك في أوصاف كثيرة ولكنه ينفرد بالشهرة في بعضها، من جهة العلم لا من جهة الصناعة، فكلما كان أعلم بأجزاء الموصوف وحالاته، وأقدر على استقصاء هذا العلم في شعره، كان أبلغ في الوصوف وأولى بالتقديم فيه؛ وإن أحسن ما يكون الوصف الصادق إذا خرج عن علم، وصرفته روعة العجب، فإن العلم يعطي مادة الحقيقة، والعجب يكسبها صورة من المبالغة الشعرية، وكل وصف لا يكون عن هذين أو أحدهما فهو تزيد من الكذب، وتكثر بالباطل؛ لأن سبيله سبيل المصنوع المتكلف، ولا يسلم متعاطيه من الخطأ، كما ترى شعراء المولدين يصنعون في صفة الإبل ونحوها من خصائص الشعر الجاهلي. وقد أخطأ أبو نواس على جلالته في وصف الأسد حين تعاطاه، وسيأتي ذلك في موضع آخر.
وعلى جهتي الوصف الصادق اللتين ذكرناهما، يجري كل شعر العرب ومن بعدهم من طبقتي المخضرمين والإسلاميين، ولا يبقى موضع للعجب في تناولهم بالوصف كل أجزاء طبيعتهم، حتى الحشرات، وحتى ما لا يستحسن مثله عادة من الوصف، كما فعل مخارق بن شهاب المازني، وهو على سيادته وكرمه، وعلى أنه من رؤساء العرب، تراه يصف تيس غنمه، ولولا روعة العجب لترك ذلك لأخلاق الرعاة ومن في طبقتهم "ص١٤٣ ج٥: الحيوان".