الآن -أي: في القرن السابع- "ص٢٣٦: القفطي" فإذا كان ذلك شأن الطب في أوائل القرن الرابع وما هو بموضع الظنة ولا بالذي يستغنى عنه، فغيره من أنواع الفلسفة أولى بأن لا يكون مستقرا ولا مشتهرًا.
وقبل هذين الطبيبين رحل من المشرق إلى الأندلس يونس الحراني الطبيب في أيام الأمير محمد، واشتهر هناك؛ ثم انقلب ولداه أحمد وعمر الأندلسيان إلى المشرق وأخذا عن ثابت بن سنان وأمثاله، وابن وصيف الكحال "ص٢٥٩: القفطي".
ولكن الأندلس كانت مشهورة في زمن الحكم المستنصر، أي: في أواخر القرن الرابع، بالرياضيات، حتى كان يتقاطر إليها طالبو هذا العلم من أوروبا، وفي ذلك العهد نبغ مسلمة بن أحمد المجريطي المتوفى سنة ٣٩٨هـ وهو إمام الرياضيين بتلك البلاد، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب وشغف بتفهيم كتاب المجسطي، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي ونقل تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة وزاد فيه جداول حسنة "ص٢١٤: القفطي" وقد تخرج عليه أجلة من علماء هذا الشأن، أشهرهم أصبغ بن السمح البارع في النجوم والهندسة، وأبو القاسم ابن الصفار أستاذ الرياضيات في قرطبة، وأبو الحسن الزهراوي، وكان للحكم نفسه منجم مختص به، وهو ابن زيد الأسقف القرطبي، وألف في ذلك كتب "تفضيل الأزمان ومصالح الأبدان""ص١٣٨ ج٢: نفح الطيب".
ومن أشهر أئمة الفلك بالأندلس إبراهيم بن يحيى النفاش المعروف بولد الزرقيال. قال ابن القفطي إنه أبصر أهل زمانه بأرصاد الكواكب وهيئة الأفلاك واستنباط الآلات النجومية، وله صحيفة الزرقيال المشهورة في أيدي أهل هذا الفرع التي جمعت من علم الحركات الفلكية كل بديع مع اختصارها، ولما وردت على علماء هذا الشأن بأرض المشرق حاروا لها وعجزوا عن فهمها إلا بعد التوقيف، وله أرصاد قد رصدها ونقلت عنه.
واشتهرت علوم الحكمة بعد زمن الحكم، وكان من أشهر الأطباء في زمنه محمد بن عبدون العذري القرطبي الذي اتصل به وبابنه المؤيد، وهو من علماء العدد والهندسة، ولم يكن بقرطبة من يلحقه في صناعة الطب ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها "ص٤٣٧ ج١: نفح الطيب" وكثر نبوغ الأندلسيين في القرن الخامس؛ وفي هذا القرن نبغ الكرماني القرطبي المتوفى سنة ٤٥٨هـ وكان فردًا في الهندسة والعدد، وهو الذي أدخل "رسائل إخوان الصفا" إلى تلك البلاد ولم يعلم أن أحدًا أدخلها الأندلس قبله "ص١٦٣: القفطي" وكان لها شأن مهم في تنويع الفلسفة الأندلسية.
وكما كان القرن الخامس أشهر عصور الأدب في الأندلس، كان القرن السادس أشهر عصور الفلسفة فيها، ظهر فيه الحكيم أبو بكر بن الصائغ الذي كان يحدث عن نفسه أنه يحسن اثني عشر علمًا أيسرها النحو الذي هو أشهر علوم الأندلسيين، وابن طفيل، وابن رشد، وأبو العلاء بن زهر فيلسوف