للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويترك فضلات روحه ويخلق رجلًا جديدًا يحب التمليق والمداهنة ويؤثر الكبرياء ويفسح من صدره للغيبة والنميمة من أجل ابن رشد ولكي يشد عليه هذه الشدة؛ ولولا ذلك ما جمع فقهاء قرطبة وأخذهم بأن ينظروا في كتب الفيلسوف فإما التحريم وإما التحليل.

وقد كان الأمير أتقى الله من [أن يهين شيبة مسلم] ويلعن رجلًا يقول ربي الله، أو يغمض في رأي من يشير بذلك؛ ولكنه أراد أن يبرأ من هذه التبعة، ويتحلل من عهدة ما عسى أن يكون خطأ، فجمع الفقهاء لتكون كلمتهم الحكم على العامة بالسكوت، فإنهم إذا خاضوا في ذلك وترك الأمر على ما هو فشت لهم فاشية من الضلال، ووجند الناس السبيل إلى خذلان هذا الأمير في غزواته، وهو الذي كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكير والبدع ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها! ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات "ص١٨٨: المعجب".

هذا ما نراه من سبب المحنة، وهو الحق لا ريب فيه، أما تفصيلها فهو قار في موضعه من كتب من ذكرناهم في صدر هذا الفصل فلا يفوت من يلتمسه؛ وقد أبعد الفيلسوف بعد ذلك إلى [.....] بلدة قريبة من قرطبة يسكنها اليهود، وأبعد من يقول بقوله أو يتكلم في علوم الفلسفة، ومنهم القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي الذي يقال إنه خرج كلمة "ملك البربر" ونبه على أنها محرفة عن "ملك البرين"، وأبو جعفر الذهبي، ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الشاعر؛ ثم كتبت الكتب عن المنصور إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فأشبع الناس من كتب الفلسفة هذه النار التي بقيت في الأندلس إلى زمن ديوان التفتيش تقول: هل من مزيد؟ ولكن المنصور لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ولكنه مرض بها مرضه الذي مات فيه سنة ٥٩٤هـ، وتوفي بعده يعقوب صدر سنة ٥٩٥هـ.

وكان في زمنه من أمراء الكتاب والشعر: أبو عبد الله بن وزير الشلبي المشهور من أمراء كتاب إشبيلية، وشعره يشبه شعر أبي فراس الحمداني، وكان أحد فرسان الأندلس، وابنه أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وأدبًا وشعرًا "ص٥٨٢ ج٢: نفح الطيب"، وقد كثر الشعر في زمنه وجم أهله ولكنه شعر اتباع لا شعر ابتداع؛ إذ لم ينشأ في الأندلس بعد القرن الخامس من يعد في أوائل شعرائها؛ ومن كثرة الشعر يومئذ أن المنصور لما قفل من غزوة الأراكة الشهيرة سنة ٥٩١هـ ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنئونه فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين والثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده.

ما أنت في أمراء الناس كلهم ... إلا كصاحب هذا الدين في الرسل

أحييت بالسيف دين الهاشمي كما ... أحياه جدك عبد المؤمن بن علي

فأمر به بألفي دينار ولم يصل أحدًا غيره، لكثرة الشعراء، وأخذًا بالمثل: "منع الجميع إرضاء

<<  <  ج: ص:  >  >>