السلام بن زعبان المعروف بديك الجن؛ واشتهر في الرثاء بطريقة انفرد بها لا ترجع إلى الأسلوب ولا إلى الصناعة، ولكن إلى معنى الفجيعة، وذلك أنه قتل له جارية وغلامًا كان يهواها ثم جعل ينوح عليهما ويرثيهما، فاشتهر بهذه الطريقة، وليس أدل على جودة رثائه من قوله فيها:
لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه، بكى له في قبره
وكان للرثاء شأن في أول الدولة الأموية، حتى كانت المراثي يناح بها نوحًا على القتلى والأموات، وأشهر من عرف بذلك الغريض المغني، وقد ربته الثريا بنت عبد الله بن الحارث وعلمته النوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرة "ص٨٥ ج١: الأغاني"؛ وكان المشهور قبله بالنوح ابن سريج المغني، وقد عدل بعد ظهور الغريض إلى الغناء فعدل معه الغريض إليه "ص١٠٠ ج١: الأغاني"، ثم كان بنو أمية يشترطون في تقريب الراوية منهم أن يكون لمراثي العرب [أحفظ] وكان القائم برثاء المتقدمين منهم النصيب الشاعر، كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي قومه، فإذا أنشده بكى وبكى معه "ص١٣٥ ج١: الأغاني" وكان يتقرب بذلك إلى ملوكهم وأمرائهم، حتى إنه لم دخل على عمرو بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ابتدأه في الاستئذان أن ينشده من مراثي أبيه عبد العزيز، فقال: لا تفعل فتحزنني "ص١٣٧ ج١: الأغاني"؛ وقد عارض بني أمية في الولع بالرثاء شعراء الطالبيين ومن نبغ بعد ذلك من هذه الشيعة إلى اليوم.
ومن طرق الرثاء التي أحدثها المتأخرون، ما يرثون به الدواب والأثاث والأدوات، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع آخر، ولكن القصيدة التي احتذوها في ذلك إنما هي القصيدة الهرية الشهيرة التي نظمها ابن العلاف الشاعر المتوفى سنة ٣١٨هـ، وكان له هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بها؛ وقيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز وخشي من الإمام المقتدر؛ لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وعرض به في أبيات منها، ويقال بل كنى بالهر عن الوزير أبي الحسن بن الفرات أيام محنته؛ لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وقيل: غير ذلك، وهذه القصيدة في ٦٥ بيتًا، وهي معدودة من أحسن الشعر وأبدعه، وقد نقل زبدتها ابن خلكان في تاريخه "الجزء الأول ص١٣٧". وللعلاف قصائد أخرى في المهر أيضًا ولكن هذه أشهرها. [واستحسن] من بعده هذا المذهب، فعارض ابن العميد القصيدة الهرية صناعة، ونقل الثعالبي شيئًا من قصيدته في "اليتيمة""الجزء الثالث ص٢٣" ولما نفق برذون أبي عيسى المنجم بأصبهان وكان قد طالت صحبته له، أوعز الصاحب بن عباد إلى الندماء المقيمين في حلبته أن يعزوا أبا عيسى ويرثوا برذونه، فقال كل منهم قصيدة فريدة، نقل الثعالبي مختارات منها "الجزء الثالث ص٥٥: يتيمة الدهر". ثم شاع هذا النوع بعد ذلك وتقلبوا في أغراضه.