للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في ذلك قصيدة واحدة, قال ابن الكلبي: لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة:

أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعافية وأخلفت كل موعد

وقال ابن رشيق: "وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة وحين أخذ ثأره وأدرك طلبته، وربما قال الشاعر في مقدمة الرثاء: تركت كذا أو كبرت عن كذا وشغلت عن كذا، وهو في ذلك كله يتغزل ويصف أحوال النساء، وكان الكميت ركابًا لهذه الطريقة في أكثر شعره، فأما ابن مقبل فمن جفاء أعرابيته أنه رثى عثمان بن عفان بقصيدة حسنة أتى فيها على ما في النفس ثم عطف وقال:

فدع ذا ولكن علقت حبل عاشق ... ...................... "الأبيات"

والنسيب في أول القصيدة على مذهب دريد خير مما ختم به هذا الجلف على تقدمه في الصناعة "ص١٢١ و١٢٢ ج٢: العمدة".

ومما حدث بعد الإسلام في طرق الرثاء الجمع بين التعزية والتهنئة، وهو مخصوص بالخلفاء في تعزية من يلي عهد أبيه منهم، وكان أول ذلك حين مات معاوية وقدم يزيد ولده فلم يقدم أحد على تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فأنشده "ج١: البيان" ففتح للناس بعده باب القول، وقد روى ابن رشيق هذه الأبيات في العمدة "ص١٢٤ ج٢" ووطأ لها بسجعات نسبها للسلولي، والصحيح أن الشعر وحده، أما السجع فهو لعطاء بن أبي صيفي الثقفي، وهو من الخطباء الذين فتح لهم الكلام بذلك الشعر "ج١: البيان". ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أو يعزونه؟ فأقبل غيلان ابن مسلمة الثقفي، فسلم عليه ثم خطب معزيا ومهنئًا. وكذلك لما توفي المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدي فسلم ونحا هذا المنحى، وقد روى كلامهما الجاحظ في الجزء الأول من "البيان".

والذي ابتدأ بالإجادة في هذه الطريقة من الشعراء أبو نواس في قصيدته النونية التي يعزي بها الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنيه بالأمين، يقول منها:

وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن

ثم اتبعه أبو تمام في قصيدته التي أولها:

ما للدموع تروم كل مرام

يقولها للواثق بعد موت المعتصم، وقد صرف الكلام فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الناحية من الشعراء؛ وليس في المتأخرين من يؤم في هذه الطريقة غير جمال الدين بن نباتة المصري -من شعراء القرن السابع- فإنه جاء في قصيدته الميميمة التي عزى فيها عبد الملك المؤيد صاحب حماه وهنأ ولده الأفضل، بما يعد من عجائب الصناعة؛ لأنه استطرد في القصيدة على طولها بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها، وهي مشهورة، مطلعها:

هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما

وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء خاصة، حتى قيل فيه إنه نواحة ندابة؛ وكذلك عبد

<<  <  ج: ص:  >  >>