للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إجماع الناس كافة على اختلاف أممهم في تشبيه الحسن النسائي بتلك المعاني إنما جاءهم من ذلك الاعتبار؛ لأنه فيهم إرث الطهارة الطبيعية من لدن الإنسان الأول؛ ولذلك السبب عينه لم تكن تأنف العربية أن توصف محاسنها؛ لأن الحسناء فيهم [صفة] نفسها، وإنما كان الشأن في ريبة النظر ودنس الفؤاد، وذلك الذي كان يستطير له الشر بينهم وتعقد عليه الغارات فهو غزل الأسنة لا غزل الألسنة، وهو أيضًا كان السبب في أن النسيب لم يغلب على شعر واحد من شعرائهم فيعرف به كما عرف قوم بالهجاء والمديح وغيرهما، وعلى أن هذا النسيب كان نوعًا من أنواع الوصف فهو كذلك لم يتميز به شاعر تميزه بالأوصاف الأخرى، وهذه تراجم شعراء الجاهلية وأشعارهم بين أيدينا، وهي بجملتها الدليل على ما أسلفنا بيانه.

فلما جاء الإسلام آمنت العيون المريبة، وصدق النظر في عفته، وتلجلجت الألسنة فيما كانت تنطلق به؛ فكان ذلك أبلغ في عفة النسيب، حتى صار يؤخذ من طرف اللسان، ولا يقصد به إلا إقامة السنة التي درج عليها العرب، وتحريك ما في القلوب من بقايا الشباب؛ حتى يستجيب الطبع للشاعر وتسلس له الخواطر، كما قال مالك بن زغبة الباهلي "ص٩٨ ج٢: العمدة".

وما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها

ولولا ذلك ما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده من قصيدة كعب بن زهير الشهيرة؛ ولتبين الناس منه الكراهة له؛ وهم لم يرووا من ذلك شيئًا كما رووا في غيره "هو منافرة الزبرقان؛ راجع العمدة".

ومضى الشعراء على ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب، وكان لشدته في الدين ينكر من الشعر غير معالي الأخلاق وصواب الرأي وما يرجع إلى الأنساب؛ حتى لقد مر بحسان وهو ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك؟ لا جرم أنه استبطل النسيب ورآه عبثًا، إن لم تكن فيه حرمة فقد يكون سببًا إليها، خصوصًا وقد تواصف الناس في زمنه معاني الغزل بما جلبته لهم الفتوح من السراري، فتقدم عمر إلى الشعراء أن لا يتشبب أحد بامرأة إلا جلده "ج٤ ص٩٨: الأغاني"؛ وكان يأبى أن يساكنه جميل من الرجال تهتف به العواتق في خدورهن؛ وقصة نصر بن حجاج معه مشهورة، ولكن ما جاءتهم به الفتوح كان قد أدخل عليهم رخاوة المدينة ونقض من طباعهم، ثم جعلت قلوبهم تسيب وتسيب معها أخلاق البداوة؛ فما هدأت الفتن بعد عثمان واستقر الأمر لمعاوية حتى قويت قلوب وضعفت عقول، وانصرف أكثر القرشيين إلى ما ألهاهم به معاوية من الترف والنعمة، وما جرأهم عليه من مباحات النظر واللسان، وهو كان يبذل إليهم الأموال في هذا السبيل ويعينهم عليه بما وسعه من الجهد، ليكسر من قرشيتهم التي هي قوام الخلافة. وظهر يومئذ الغناء [ممترى] فيه حتى أباحه يزيد بن معاوية "٦٠-٦٤هـ" ففشا في الحجاز؛ والنسيب مادة الغناء الطبيعية وبه يقوم أمره؛ فكان المغنون يتناولون في أول أمرهم نسيب الجاهليين والمخضرمين؛ كالمهلهل وامرئ القيس والنابغة وذي الإصبع العدواني وحميد بن ثور وغيرهم؛ وكان هذا منشأ الظرف الحجازي الذين ضربوه مثلًا؛ لأن أهل العراق كانوا ينكرون الغناء ولكن لا يرون بأسًا

<<  <  ج: ص:  >  >>