يريد أن أشهد الوغي. منها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ}[محمد: ٤] أي: فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة: ٢] أي: تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو:{بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم: ٦] أي: الفتنة. ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا بحذاء كلام فتؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضًا، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غَدَايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:
هتاك أخبية ولاج أبوية
فجمع الباب على أبوية ليشاكل لفظ الأخبية. ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتوروا تجاورًا، وتجاوروا اجتوارًا، وانكسر كسرًا وكُسِر انكسارًا، وعليه قوله تعالى:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل: ٨] . ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقولهم: امرأة بادن أي: بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة، ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي: حسرها السير. وغلالة رادع، أي: مردعة بالطيب بالزعفران في مواضع منها، وقد أفاض صاحب "المخصص" في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى "الجزء ١٦".
ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفننًا، كقوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}[آل عمران: ١٧٥] أي: يخوفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده بابًا في "المخصص""الجزء ١٤".
ومنها أيضًا قلب الكلام تفننًا، كقول العباس بن مرداس:
فديت بنفسه نفسي ومالي
أي: فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:
ما كنت في الحرب العوان مغمرًا ... إذ شب حر وقودها أجزالها
وإنما هو: إذ شب حر وقودها أجزالها، ولكن روي القصيدة بالفتح. ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها؛ لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعيين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معانيه.
وبعد، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه "تمدن العرب اللغوي" وهو كما ترى يصح أن يكون غرضًا لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن يتعاون على إخراجه الفكر الصحيح والذهن الشفاف والفطنة الوقادة، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثم ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعر وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم؛ لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تخلق الأسرار، وتسدل عليها الأستار، فلا يرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار.