للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جهاته؛ وعلى هذا متقدمو العلماء؛ ومنهم من يرى أنهم إنما يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة، وأن ذلك منهم ليس استرسالًا ولا ترجيعًا، وإلا لكثر اختلاف الإعراب في كلامهم وانتشرت جهاته ولم تنفذ مقايسه، فلم يجمعوا مثلًا على رفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك. ومن هؤلاء ابن فارس في كتابه "فقه اللغة"١، وابن جني كما يؤخذ من كلامه في كتاب "الخصائص".

والذي عندنا أن ذلك من "خرفشة النحاة" كما يقول ابن خلدون في تحذلقهم وتنطسهم، والصواب رأي الفريق الأول؛ لأن ما ذكره ابن جني في معنى التعليم والتلقين، فإذا ثبت أنهم يتصفحون وجوه الكلام ويتأملون مواقعه، لم يجز أن ينتقل لسان العربي عن لغة إلى لغة أخرى، ولا أن يستدرج في بعض الكلام، ولا أن تضعف فصاحة الفصيح منهم، للزومهم طريقًا واضحًا ومهيعًا معروفًا، وما كان بالتعليم لا يكون بالفطرة. وقد جاءت الروايات بكل ذلك عنهم، ولا سبب له غير الاختلاف الفطري الذي تبتدئه الوراثة وتكملة الطبيعة كما أومأنا إليه في محله.

فالصحيح أن الطباع العربية مختلفة قوة وضعفًا. فمنها المتوقح الجافي، ومنها الرخو المضطرب وبحسب ذلك تكون اللغة فيهم؛ وقد نقل ابن جني نفسه في موضع من كتابه أن العرب أشد استنكارًا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولد ولكنه لا ينطق باللحن, ثم قال في موضع آخر: إن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيغ الإعراب. ولم يأت هذا التفاوت -كما ترى- إلا من اختلاف الطباع الذي أشرنا إليه، فأحر بما اتفقوا عليه أن يكون سببه في الطبع أيضًا؛ لأن الاختلاف في جهات من الشيء إنما يتميز بالاتفاق على جهات أخرى منه.

بهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية ألبتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر؛ وسنزيد هذا الموضع بيانًا في الفصل التالي.

هذه أولية اللحن، كانت كما عرفت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رووا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل" ويروى: "فإنه قد ضل" , فلو كان اللحن معروفا في العرب قبل ذلك العهد، مستقر الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه؛ لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد، بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سمعه أفصح العرب صلى الله عليه وسلم.

ثم لما استفاضت الأسباب التي ذكرناها في صدر هذا المقال، وفتحت الروم وفارس، كثر


١ بل غلا ابن فارس غلوا قبيحًا لاعتقاده أصلة اللغة واعتبارها اعتبارًا دينيا كما بسطناه فيما سلف، فزعم أن العرب "العاربة" كانوا يعرفون النحو والعروض بمصطلحاتهما؛ وذلك بتوقيف من قبلهم حتى ينتهي الأمر إلى الموقف الأول وهو الله عز وجل الذي علم آدم الأسماء كلها -على ما يفسر به بعضهم هذه الأسماء- وأن هذين العلمين "النحو والعروض" كانا قديمًا ثم أتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس حتى جدد النحو أبو الأسود، وجدد العروض الخليل بن أحمد.

<<  <  ج: ص:  >  >>