للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللحن بالضرورة. ولكن العرب كانوا يستمجونه ويعتبرونه هُجنة وزراية، وينتقصون أهله ويبعدونهم، ومما رووه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بقوم يرمون، فاستقبح رميهم، فقال: ما أسوأ رميكم! فقالوا: نحن قوم "متعلمين". فقال عمر: لحنكم أشد علي من فساد رميكم١. وقد تضافرت الروايات بأن كاتبًا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر فلحن، فكتب إليه عمر: عزت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا -وفي رواية كتب إليه أن قنع كاتبك سوطًا- ولكنهم لم يذكروا موضع اللحن في كتاب أبي موسى حتى وقفنا عليه، فإذا هو لحن قبيح يشق على عمر وغير عمر؛ لأن ذلك الكاتب جعل صدر كتابه هكذا: "من أبو موسى" وهذا على ما نظن أول لحن وقع في الكتابة، ثم شاع بعد ذلك حين نقلت الدواوين إلى العربية من الرومية والقبطية٢، وكان أكثر ما يكون ذلك من ألفاف كتاب الخراج والصيارفة، وقد عثروا في بعض قرى مصر على رقاع مكتوبة، يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة ١٢٧هـ، ومنها رسائل موجزة إلى أصحاب البُرُد، كبريد أشمون وغيره، وهي على إيجازها قبيحة اللحن، ولكن منها رسائل مؤرخة في سنة ١٨٢هـ و٢٥٠هـ و٢٧٩هـ و٢٩٥هـ وقد كتب الأخيرتين "شمعون بن مينا، ونقله ابن اندونه" ولحنها من أقبح اللحن، يكتبون فيها دنانير هكذا "دنَنِير" على أنها كلها تكتب بصيغة واحدة لا تتجاوز كلمات معدودة، مما يرجع أنها أمثلة موضوعة لهم ينقلونها في تلك الأغراض الثابتة ولا يغيرون منها إلا الأسماء والأرقام، وذلك شأن حثالة العامة إلى اليوم. ومن تلك الرسائل التي أصابوها، رقعة أملاها بعض المتحذلقين إلى بقال ولا تاريخ لها، ونحن ننقل نصها تفكهة، وهو: رقعة عبد الرازق:

"بسم الله الرحمن الرحيم. أطال الله بقاك، وأدام عزك وكرامتك، وجعلني فداك، قد وجهنا إليك ربع درهم، فتفضل ادفع إلى الغلام دانق سكبينج، ونصف دانق بزْر كَرَفْس، وادفع إليه كسرين، وسرني بذلك إن شاء الله" ... أملي في غدا القدر٣.


١ كذا روى ابن الأنباري في كتاب "الأضداد"؛ وعندنا أن هذا الخبر موضوع؛ لأن إلزام المثنى والجمع الياء دائمًا إنما كان ظهوره في لغات الموالي والمتعربين، لسهولة ذلك على ألسنتهم ولصعوبة التمييز بين حال الرفع وحال النصب، وسياق الخبر يدل على أن القوم كانوا من العرب، ويرجح ذلك أنه زاد في الخبر عن عمر قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رحم الله امرءًا أصلح من لسانه". فكأن ذلك للتغريب والترهيب لا غير.
٢ نقلت الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية في خلافة عبد الملك بن مروان، وأول ديوان نقل إليها ديوان الشام، كان بالرومية فنقل سنة ٨١هـ، وكان الديوان في مصر أول نقله يكتب فيه بالعربية والقبطية معًا، ثم ماتت هذه بحياة تلك، ولهذا البحث موضع من الكتاب نرجو أن نصل إليه إن شاء الله.
٣ كنا نريد أن نثبت الصور الخطية لتلك الرقاع، ولكنا لم نر في إثباتها فائدة من البحث الذي نحن فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>