وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا علي بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته؛ لأنه يعرف في الإعراب، وعلي هذا كان كاتبًا في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق:
دخل مرة سوق الدواب، فقال له النخاس: هل من حاجة؟ قال: نعم؟ أردت فرسًا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخبط بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال النخاس: هكذا كان فرسه صلى الله عليه وسلم!
وكان مثل هذا التقعر خاصا بجفاة الأعراب ممن يطرءون من البادية، فلما فشا اللحن ولانت جوانب الكلام، أخذ في طريقهم جماعة من النحويين، فكانوا يبالغون في التقعير والتعقيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، يريدون بذلك أن يتبادَوْا في الحضريين ليكونوا أعرابهم، فكانت هذه الأعرابية الكاذبة تمثيلًا مضحكًا عند العامة، وثقيلًا مبغضًا عند العلماء. ومن أشهر أولئك: عيسى بن عمر الثقفي، وهو رأس المتقعرين وفاتحة تاريخهم "توفي سنة ١٤٩هـ"، وأبو علقمة النحوي، وأبو خالد النميري، وأبو محلم الراوية، وغيرهم، ومن أثقل ما رأينا في التقعير، هذا الكتاب الذي كتبه أبو محلم "في أواخر القرن الثاني" إلى بعض الحذائين، في نعل كانت له، وهذه عبارته كما رواها القالي في أماليه:
"دِنها، فإذا همت تأتدن فلا تخلها تُمَرْخِد، وقبل أن تقْفعِل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وَكِبة ولا جَشِبة، ثم امعسها معسًا رقيقًا، ثم سن شفرتك وأمهها، فإذا رأيت عليها مثل الهوة فسن رأس الإزميل، ثم سم بالله وصل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انحها وكوف جوانبها كوفًا رقيقًا، واقبلها بقبالين أخنسين أفطسين غير خليطين ولا أصمعين، وليكونا وثيقين من أديم صافي البشرة غير نَمِش ولا حَلم، ولا كَدِش، واجعل في مقدمتها كمنقار النغر١".
لا جرم عد أمثال هؤلاء في الثقلاء؛ لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطبة الأعراب الفصحاء.
وقد ألف أبو الفرج النحوي المتوفى سنة ٤٩٩هـ كتابًا جمع فيه أخبار المقعرين وساق نوادرهم.
على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بلْهَ المتقعرين، ولا الرواة أيضًا، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها.
١ هذا تفسير غريبه: تأتدن: تبتل، تمرخد: تسترخي، تقفعل: تنقبض، وكبة جشبة أي: وسخة غليظة، المعس: الدلك، إمهاء السكين: تسخينها بالنار ثم إلقاؤها في الماء، أوحدها، الإزميل: من أدوات الحذاء، التكويف: التدوير: القبالان: سيران تشد بهما النعل. ويريد أبو محلم بوصفهما أن يكونا غليظين من أديم واحد لا عيب فيه من عيوب الجلد.