للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ثم صاروا يطلقون لفظ "الصُّحُفي" على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي "في أواخر القرن الخامس" وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحُفيا.

وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة ٨٥٨هـ آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حِسّه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال له: أنت صحفي! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من إربل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج وكثيرًا من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام١.

ومن كان ثقة مسندًا للكتب وفاته إسناد كتاب مما يعده الناس من الأمهات والأصول، عدوه متساهلًا في الرواية، وقد نقل ياقوت أن علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي "من صقلية" إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة ٥١٥هـ؛ لما قدم إلى مصر سأله نقاد المصريين عن كتاب الصحاح، فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب لهم إسنادًا وأخذه الناس عنه مقلدين له٢. ولهذا قلما كان يظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد؛ وقد ذكروا أن بعضهم كان يقرأ المقامات على الحريري "توفي سنة ٥١٦هـ" فوصل إلى قوله:

يا أهل ذا المغني وقيتم شرا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرا

قد رفع الليل الذي اكفهرا ... إلى ذراكم شعثًا مغبرا

فقرأها "سغبًا معترا" ففكر الحريري ساعة ثم قال: "والله لقد أجدت التصحيف، فرب شعث مغبر غير سغب، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرته كذلك! ".

ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب العربية معروفًا عند كبار العلماء إلى اليوم.


١ كان موفق الدين مفتتنًا في العلوم، ولكنه كان الآية الكبرى في العربية، وقالوا إنه لما رحل إلى بغداد أخذ معه جملة لينفقها على النحو، فلم يجد من يرضيه علمه فأنفقها على تعلم الضرب بالعود ... وكان مكي الذي انتمى إليه يراجعه في المسائل المشكلة يرجع إلى رأيه في أجوبة ما يورد عليه.
٢ أول من أدخل كتب اللغة والنحو إلى مصر ورواها بأسانيدها هو الوليد بن محمد التميمي النحوي المشهور بولاد، وأصله من البصرة، ولكنه نشأ بمصر، ثم رحل وأخذ عن المهلبي تلميذ الخليل بن أحمد وغيره، وروى كتب اللغة والنحو، ولم يكن بمصر قبله شيء منها، وتوفي سنة ٢٦٣هـ، وسنذكر في تاريخ الأدب الأندلسي أول من أدخل كتب الأدب إليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>