للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طريق الغناء؛ إذ كانت تطلق عليه في القرن الثالث؛ لأنه بلغ الغاية من إحكامه وجردت فيه الكتب، وأفردت له الدواوين من مختارات الشعر، كما سنفصله في موضعه، وكانوا يعتبرون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى الآداب، وفيها وضع عبيد الله بن طاهر من ندماء الخليفة المعتضد بالله المتوفى ٢٨٩هـ كتابه "الآداب الرفيعة"١. لذلك قال ابن خلدون: إن الغناء في الصدر الأول كان من أجزاء هذا الفن "الأدب" وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه.

وقد ألف كشاجم الشاعر الرقيق الذي كان طباخ سيف الدولة بن حمدان كتابه "أدب النديم" أودعه ما لا يستغني عن شريف، ولا يجوز أن يخل به ظريف؛ وهو مطبوع مشهور. وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري من شعراء القرن الرابع أيضًا، وقد جمع "حرف" الآداب:

إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العز والنعم

فالطرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم٢

وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلدين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على إصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:

وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب٣

ولم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظ "الأدباء" قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيته الشعراء والكتاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذ وتخصص الطبقات بها، على ما كان من ضعف الرواية ونضوب مادتها حتى قالوا: "ختم تاريخ الأدباء بثعلب والمبرد". وكانت وفاة المبرد سنة ٢٥٨هـ، وثعلب سنة ٢٩١هـ؛ فيكون ختام تاريخ الأدباء "أي: المعلمين" في أواخر القرن الثالث، ومن يومئذ أخذ الأدب يتميز عن علم العربية، بعد أن كانوا يعدون "الأدباء" أصحاب النحو والشعر، وإن كان ذلك بقي موضوع علم الأدب؛ ومن هذا أنه لما وضع علي بن الحسين المعروف بالباخرزي٤ كتابه "دمية القصر" الذي جعله ذيلًا على "اليتيمة" للثعالبي، عقد فيه فصلًا "لأئمة الأدب" قال في أوله: "هؤلاء قوم ليس لهم في دواوين الشعر رسم، ولا في قوانين الشعراء اسم" ثم ترجم طائفة من علماء اللغة: كأبي الحسين بن فارس صاحب "فقه اللغة"، وابن جني النحوي، وأسد


١ تصلح هذه الكلمة أن تكون تعريبًا لما ترجمه المتأخرون "بالفنون الجميلة" Beaux arts وعبيد الله هذا كان نادرة في الغناء، قال صاحب الأغاني: إنه توصل إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به.
٢ الطرف: الكريم من الخيل، والأوهاق: جمع وهق، قال الليث: هو الحبل المغار يرمي في أنشوطه فتؤخذ به الدابة والإنسان، وغرض الشاعر أن يجمع حرف الكدية التي ينال بها، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث الشعر.
٣ العنجهية: الحمق والجهل، واللوثة: الهيج والحمق أيضًا، والمراد بكل ذلك جفاء الأخلاق.
٤ نسبة إلى باخرز: ناحية من نواحي نيسابور، وقتل علي هذا في بعض مجالس الأنس ٤٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>