للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن الأصمعي أنه قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج, وتوفي ابن هرمة بعد الخمسين ومائة، وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية١.

أما ما يذهب إليه بعضهم من أن سيبويه احتج بشعر بشار بن برد، فالخبر في ذلك أن سيبويه عاب أحرفًا على بشار ونسبه فيها إلى الغلط: كالوجلى من الوجل وجمع نون "أي: الحوت" على نينان؛ فهجاه بشار، قال أبو حاتم: فتوفاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدًا من شعر بشار احتج به استكفافًا لشره! "وتوفي بشار سنة ١٦٨هـ وقد نيف على التسعين".

وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن، وشواهد النحو؛ أما الأولى فكثيرة، وقد تقدم ما رووه من حفظ ابن الأنباري فيها، ولا يبالي الرواة في هذه الشواهد إلا باللفظ، فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون منها الألفاظ وهي حروف طاهرة؛ وقد روى أبو حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيد معمر بن المثنى الراوية بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم، قال الجرمي: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ وإن شئت فذر!

وأما شواهد النحو فأوسع الناس حفظًا لها فيما وقفنا عليه: خلف الأحمر النحوي المتوفى سنة ٢٠٧هـ، وهو مؤدب الأمين ابن الرشيد؛ قال ثعلب: إنه كان يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب؛ وأبو مسحل الأعرابي الذي أخذ عن الكسائي، قالوا إنه روى عن علي بن المبارك أربعين ألف بيت شاهد على النحو.

وقد قلت شواهد النحو واللغة بعد ذهاب الرواة وعفاء مجالسهم، حتى صارت تشبه الآثار التاريخية في الضن بها والحرص عليها وتداولها كما هي؛ لأن قيمتها في نفس الحالة التي هي عليها؛ ومنشأ ذلك من تناقل الكتب بالرواية والاقتصار على ما فيها من مبالغة في تحقيق الإسناد العلمي؛ ولم يشتهر أحد في المتأخرين بالإكثار من تلك الشواهد والاتساع في حفظها كابن مالك النحوي الشهير صاحب الألفية المتوفى سنة ٦٧٢هـ، وكان قد أخذ العلم بنفسه وليس له في الانتماء ما لغيره من العلماء٢؛ قال الذهبي في ترجمته: "وأما أشعار العرب التي يستشهدون بها على اللغة والنحو فكانت الأئمة الأعلام يتحيرون ويتعجبون من أين يأتي بها" وهذه العبارة وحدها كافية في الوصف التاريخي الذي نحن فيه.

والكوفيون أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها؛ لضعب مذاهبهم وتسلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولًا يقاس عليها؛ مجاراة عليها؛ مجاراة لما فيهم من الميل الطبيعي إلى الشذوذ كما


١ في رواية ابن قتيبة عن الأصمعي أنه قال: ساقة الشعراء ابن ميادة، وابن هرمة، ورؤبة، وحكم الخضري.
٢ قال أبو حيان، وكان ابن مالك لا يحتمل المباحثة ولا يثبت للمناقشة: يريد بذلك أنه يتوقى التعبير بأنه صحفي على ما كان من أمر العلماء كما سبقت الإشارة إليه في موضعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>