للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثقفي١ قيل له إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، قال: فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة.

ولما اشتغل هؤلاء الكوفيون بعلم العربية، وكان في طبعهم الشذوذ كما ستعرفه، سهل عليهم قبول الشواذ، ولم يتحرجوا من الصنعة للاستشهاد؛ لأن الصنعة من شذوذ الرواية أيضًا، فزاد ذلك في الشعر عندهم، ومن أشهر رواتهم بعد حماد، خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل، وقد ألف فيها كتابًا، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة ٢٠٦هـ وقد جاوز المائة بعقد، وعنه أخذت دواوين أشعار القبائل كلها، وقد جمع نيفًا وثمانين قبيلة.

وليس في الرواة جميعًا من يداني حمادًا وخلفًا في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التاريخ كله، وإنما يكون لغيرهما البيت الواحد والأبيات القليلة مما لا تفتضح صنعته، يضعونه لتوجيه الحجة وتزيين الخبر ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله:

وأنكرتني، وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا٢

وهو من أبيات الشواهد, ومنهم الأصمعي، وأبو عبيدة، واللاحقي، وقطرب، وغيرهم.

وقد يجد الرواة للشاعر الأبيات الحسنة في المعنى الجيد وهي تحتمل الزيادة، فيصنعون عليها ويولدون حتى تبلغ قصيدة، أبيات الطيرة للحارث بن حلزة, وهي أربعة أبيات ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. قال أبو عبيدة: أنشدنيها عمرو، وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولد، وتلك قوله:

يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنيك الحادي ولا الشاحج

ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مربع هائج

بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج

يترك ما رقح من عيشه ... "يعيش منه"٣ همج هامج٤


١ وثب المختار بالكوفة سنة ٦٦هـ في سلطان ابن الزبير وأخرج منها عامله، فوجه إليه ابن الزبير أخاه مصعبًا فقتله سنة ٦٧هـ، وكان يزعم أن جبرائيل عليه السلام يأتيه؛ وهو من رءوس الفتن التي نجمت في الإسلام، والكوفة قد بنيت بظاهر الحيرة، وكان مقرا للنعمان بن المنذر.
٢ هذه رواية أبي الطيب اللغوي، ينسب فيها وضع البيت لأبي عمرو، ولكن صاحب "العقد الفريد" نقل أن حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
إلخ.
ورواية أبي الطيب أوثق وأصح.
٣ قلت: هذه رواية المؤلف، والذي في اللسان: "يعيث فيه".
٤ الحادي مقلوب الحائد، وهو في الطيرة ما استقبلك من تجاهك من الطير والوحش، والسانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره، والعقيد الذي يأتيك من خلفك، والشاحج الغراب المسن الذي غلظ صوته، وهو من شر ما يتطيرون به، كالثور الأعضب وهو المكسور القرن، وترقيح المال: إصلاحه والقيام عليه حتى ينمو.

<<  <  ج: ص:  >  >>