قال: ثم قص في مسجده "بالبصرة" أبو علي الأسواري ابن فائد، ستا وثلاثين سنة، وابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما يفسر آية واحدة في عدة أسابيع، كأن تكون الآية قد ذكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكان يقص في فنون كثيرة من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك. وكان يونس بن حبيب يسمع منه كلام العرب ويحتج به. وخصاله المحمودة كثيرة.
ثم قص من بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، ولم يدرك في القصاص مثله. وكان يقص معهما وبعدهما ملك بن عبد الحميد المكفوف، فأما صالح المري فإنه كان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس، قال الجاحظ: فذكر أصحابنا أن سفيان بن حبيب لما دخل البصرة وتوارى عند مرحوم العطار "من أصحاب الحديث، كان في أواخر القرن الثاني" قال له مرحوم: هل لك أن تأتي قاصا عندنا فتتفرج بالخروج والنظر إلى الناس والاستماع منه؟ فأتاه على تكره؛ لأنه ظنه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول: حدثنا سعيد عن قتادة، وحدث قتادة عن الحسين رأى بيانًا لم يحتبسه، ومذهبًا لم يكن يدانيه، فأقبل سفيان على مرحوم، فقال: ليس هذا قاصا، هذا نذير!
ولما نضجت العلوم في القرن الثالث، ذهب القصاص وخلفهم الوعاظ من المتصوفة والزهاد، إذا كان اسم القاص قد أصبح لقبًا عاميا مبتذلًا، وأكثر المتصدرين في الوعظ إنما يكونون من أهل الحديث المتسعين في العلوم، ولا حاجة إلى الكلام عنهم، ولم يزد المتصوفة في الأخبار إلا ما يزعمون أنهم احتووه بعلم خاص، والله أعلم بغيبه.