يخصونه بمكاره العلم كلها، ويجفون عنه أشد جفاء، وإنهم وإياه في غرورهم وأوهامهم لكالطيارات غرها أن تصعد في الجو فمضت حاشدة في حملة حربية إلى فلك الشمس.
ألا إن دون هذه الشمس سنن الكون وقوانين الأقدار ونظام الأبدية، مما تستوي عنده طيارات الأرض ودبابات الأرض ... حتى ما بين هذه وهذه منزلة أو فرق، وإن جعل العلم بينهما فروقًا وفروقًا ومنازل ومنازل.
دع جهلهم باللغة وأسرار البيان، فهو السبب الحق الذي ضل بهم وجعلهم يرون القرآن كلامًا من الكلام يجرون عليه الحكم الذي يجري على غيره، كما يظن الجاهل الذي ليس في نظره معان عقلية, كل صورة ككل صورة وكل حصاة ككل جوهرة، ويذهب يقيم لك البرهان على صحة نظره من الخطوط والتقاسيم والألوان والأوصاف ومعان فلسفية اقتصادية.... دع هذا وخذ في السبب العلمي الذي ينقمونه من القرآن فهم يرونه صورة من الثبات والاستقرار، ويعلمون أن العقيدة قد محته من قانون التحول والتغير وجعلته في ذلك قانونًا وحده؛ ثم يقفون عند هذا وحسب فما ندري أمن علم أم جهل لا يصدقون أن في العالم معجزات والمعجزة ماثلة بين أيديهم على مقادير متفاوتة ودرجات مختلفة، تبدأ من إعجاز القوي للضعيف، ثم الأقوى للقوي، ثم الشاذ للأقوى، ثم ما كان إلهيا لما كان إنسانيا.
لا يعلمون -أصلحهم الله- أن استقرار القرآن وهو شريعة وأخبار وآداب، هو بعض أدلة إعجازه، بل أقواها، بل دليلها الزمن المنسحب على الزمن، إذا كانوا قومًا يجهلون ولا يحققون، كالذي يحبس عينه على الظل ولا ينظر فيما وراءه مما يفيء عنه الظل تارة قصيرًا وتارة طويلًا وحينًا مجتمعًا وحينًا ممتدا ثابتًا ومرة متحولًا، فإن هذا القرآن أشبه بالأثر المبني بناء "كالهرم الأكبر مثلًا" وقد تركه تاريخ زمن ليعين للأزمنة الأخرى صفة ثابتة لا تحتمل هذا التأويل الذي لا بد أن يعتري في كل عصر من طبائع أهله، وتقلب هذه الطبائع. وتنوع هذا التقلب واختلافه، ولكنه مع ذلك كتاب، أي: كلام ومعان تتسع لكل الأزمنة وتحتمل اختلافها الذي تختلف به، ثم هي تحدد هذا الاختلاف فترده إلى القانون الإنساني الأعلى الذي يسري فيه اليقين العام ليحفظ الإنسانية على أهلها، ومن ثم تراه يجمع في نفسه الثبات الزمني، فلا يتغير ولا يتبدل على ما يمتد الزمن ويتغير، ثم يجمع إلى ذلك لكل جيل قوة التأويل في معانيه الحادثة الصحيحة، وقوة التكوين في آدابه الصالحة القوية كأنه ليس من زمن مضى، ولا كان لأمة سلفت، ولا هو لتاريخ وقع وانقطع، فإذا أنت تدبرت هذا واستدللت عليه بما أظهره هذا الجيل العلمي في القرآن مما وافق الحقائق الطبيعية والكونية والاجتماعية١ فلن يأتي لك من ذلك إلا معنى واحد تستخرجه وتقع به، وهو أن هذا الكتاب الكريم أثر غيبي كان في علم الله قبل
١ قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلًا جدا. وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله إذ لو كان صلى الله عليه وسلم فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم، لجمد القرآن جمودًا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها، فإن كلام الرسول نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسان يفسر كتاب الإنسانية، فتأمل حكمة ذلك السكوت: فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه. "المؤلف".