للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا.

قال أحد العلماء: "فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحريز كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء!

"واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال. واللازم والمعتدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة"١.

"واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيع أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره".

"واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسمعوا هذا العلم بأصول الدين"٢.

"وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز".

"وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه".

"وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛ فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا".

"وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء؛ وسموا ذلك بالتاريخ٣ والقصص".


١ توسع النحاة وأهل اللغة في شواهد القرآن ونقبوا عنها واستعرضوا لها ما انتهى إليهم من كلام العرب، فلا يعرف في تاريخ العلوم اللسانية قاطبة شواهد تبلغ عدتها أو تقاربها أو تكون منها على نسبة متكافئة، فإن مبلغ ما أحصوه من شواهد القرآن فيما ذكروا ثلاثمائة ألف بيت من الشعر، ولعمر أبيك إنها لمعجزة في فنها ولو بلغت الشواهد نصف هذا القدر لكانت المعجزة كاملة.
٢ وهو الذي يقال له اليوم علم التوحيد.
٣ يجهل كثير من الناس أصل تسمية كتب الوقائع والأحداث وما إليها بالتاريخ، إنما هو أصلها، فكانت في مبدأ أمرها مقصورة على ما في القرآن من أخبار الأولين وقصصهم, ثم أطلقت التسمية فاستعملوها فيما اتسع من هذا العلم، وهو استعمال تواضع عليه أهل القرن الثاني للهجرة، أما في القرن الأول فلم يكن يعرف من معنى "التاريخ" إلا التوقيت، أي: تعيين الوقت.

<<  <  ج: ص:  >  >>