للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطرادها على سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وافتنوا فيه، وتوافى عليه من شعرائهم أفراد معدودون كان كل واحد منهم كأنه عصر في تاريخه بما زاد من محاسنه وابتدع من أغراضه ومعانيه. وما نفض عليه من الصبغ والرونق؛ ثم كان لهم من تهذيب اللغة، واجتماعهم على نمط من القرشية يرونه مثالا لكمال الفطرة الممكن أن يكون, وأخذهم في هذا السمت, ما جعل "الكلمة" نافذة في أكثرها لا يصدها اختلاف من اللسان، ولا يعترضها تناكر في اللغة؛ فقامت فيهم بذلك دولة الكلام؛ ولكنها بقيت بلا ملك، حتى جاءهم القرآن.

وكل من يبحث في تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء فإنه يرى كل ما سبق على القرآن -من أمر الكلام العربي وتاريخه- إنما كان توطيدًا له وتهيئة لظهوره وتناهيًا إليه ودرية لإصلاحهم به وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل هذه الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرًا وأبدع مظهرًا وأمد سببًا إلى النفس وأرد عليها بالعاقبة؛ ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقوم في سمائهم شرعًا، وأوفر في أنفسهم ريعًا وأكثر في سوقهم شراء وبيعًا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من تلك المعجزة.

هذا على أنه -كما علمت- أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف من مذاهب تربية الأمم؛ ولا هو كان طباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي تظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة، إذ كانت ميراث الدهر، وكانت مستقرة على عرق سار؛ وفي كل شبه نازع، وكانت روح المجموع لا تكون إلا منها، ولا تعرف إلا بها ولا تظهر إلا فيها فما عدا أن سفه أحلامهم، ونكس أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأولين، وقام على رءوسهم بالتقريع والتأنيب، وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تصب كالمعاني في الألفاظ؛ ثم ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق العمر إلى الفناء فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشئوا وهم أغفال وأحداث، بل كأنهم سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة، فكانوا هم الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقًا للحديث الشريف: $"خير القرون قرني ثم الذي يليه".

ولعمرك إن هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلا أن أول جيل أنسل من هؤلاء القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره في أقفال الأرض١ وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن وكأنه دار معها في الأصلاب دهرًا طويلًا حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردت عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالة بعد


١ كناية عن الممالك التي افتتحوها، وقد بلغوا في ثمانين سنة ما لم يبلغه شعب من شعوب العالم في ثمانمائة سنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>