للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد عاد في نفسه إحساسًا وأملًا لا سبيل عليهما للقدرة الفنية.

وهذا هو معنى العجز، وذلك هو معنى الإعجاز، ولا يزال يتفق منه في أعمال الناس على حساب ما يكون من اختلاف درجاتهم ومبلغ طاقتهم؛ وما من ذي من فن نابغ إلا وأنت واحد حسن عمله دون أمله هو في هذا الحسن، ودون إحساسه بهذا الأمل، حتى إنك لتعجب بما ظهر من قدرته الفنية في عمل الذي تراه أحسن شيء, على حين أنه لا يعجب إلا بالأصل الكامل الذي توهمه في نفسه، ووجد بيانه في خاطره، والذي لم يستطع أن يخرجه كاملًا؛ لأن من طبيعة الإحساس أن يظهر فيه كمال النفس ما دام في النفس، فإذا هو انقلب في الحواس عملًا ظهر فيه نقص الحواس!

ولما كان مرجع تقدير الكلام في بلاغته وفصاحته إلى الإحساس وحده وخاصة في أولئك العرب الذين من أين تأملتهم ورأيتهم كأنما خلقوا خلقًا لغويا١، وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان ومذاهب النفس إليه فقد أحسوا بعجزهم عما امتنع مما قبله، وكان كل امرئ منهم كأنما يحمل في قرارة نفسه برهان الإعجاز، وإن حمل كل إفك وزور على طرف لسانه!

ولهذا انقطعوا عن المعارضة، مع تحديهم إليها على طول المدة وانفساح الأمر وعلى كثرة التقريع، والتأنيب، وعلى تصغير شأنهم وتحقيرهم، وذلك بالنزول عن التحدي بمثل القرآن كله، إلى عشر سور مثله، إلى عشر مفتريات لا حقيقة فيها، إلى سورة واحدة من مثله، ولو هم أرادوا هذه السورة الواحدة ما استطاعوها؛ لأن إحساسهم منصرف إلى أصل الكمال اللغوي في القرآن، مستغرق فيه، فلا يرون المعارضة تكون إلا على هذا الأصل، أو تتحقق إلا به: وهو شيء لا تناله القدرة، ولا تيسره القوة؛ لأنه على ظهوره في أسلوب القرآن، باطن في أنفسهم، تقف عليه المعرفة ولا تبلغه الصفة: كالروائح والطعوم والألوان وما إليها.

فلو ذهبوا إلى معارضة السورة القصيرة على قلة كلماتها، وعلى أنها نفس واحدة وجملة متميزة، لضاق بهم الأمر بمقدار ما يظن الجاهل أنه يسعهم؛ فإن ذلك الإحساس لا يزايلهم ولا يبرح يورد عليهم محاسن ذلك الأسلوب جملة. ويغمرهم بها ضربة واحدة تنثال من ههنا وههنا؛ فلا يكون إلا


١ أومأنا في الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" في فصل "الأسباب اللسانية" إلى السبب الذي من أجله رقت ألسنة العرب وصارت حركاتها على مقادير مضبوطة توازن الحروف التي تجري عليها، كما تميل كفة الميزان بمقدار ما يوضع فيه ثقلًا وخفة، وأفضنا في مواضع كثيرة من ذلك الجزء فيما يصف خلقة العرب اللغوية، ثم أطلعنا بعد ذلك على تعليل لبعض الفلاسفة لا بأس به إن صح أصل القياس فيه فهو يرى أن العرب أصحاب حفظ ورواية, ولخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم، وذلك لأنهم تحت نطاق فلك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء. ولا أقل من أن يكون ذلك قريبًا إن لم يكن صحيحًا.
انظر ص١٠٢ ج١ هامش الكامل: عدم معارضتهم للقرآن وسببه، وفي ص١١٤ منه: غلبة البيان على العرب وحكمة التحدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>