للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل الذي أومأنا إليه: نمطًا واحدًا في القوة والإبداع، ولا تقع منه على لفظ واحد يخل بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام الإلهي وما دام في موضعه من النظم والسياق١ فإذا أنت حرفت ألفاظه من مواضعها، أو أخرجتها من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حصلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها -وهي في الحالتين لغة واحدة- كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لبعد ما كانت فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن، أصبت أمرًا بالخلاف، ورأيت لكل لفظة روحًا في تركيبها من الكلام فإذا أفردتها وجدتها قريبة مما كانت؛ لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى إذا أبنتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينت فيها الوحشة والقلة شبيه الذي يعرض للغريب إذا نزح عن موطنه وبان من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعيا؛ لأن حقيقة التركيب إنما هي صفة الوحي في هذا الكلام.


١ من أعجب ما اتفق في هذا القرآن من وجوه إعجازه أن معانيه ترى في مناسبة الوضع وإحكام النظم مجرى ألفاظه على ما بيناه من أمرها، ولا يعد المفكر وجهًا صحيحًا من القول ربط كل كلمة بأختها، وكل آية بضريبتها، وكل سورة بما إليها وهو علم عجيب أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره، وقد قال فيه إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
ويقال إن أول من أظهر هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان غزير المادة في الشريعة والأدب فكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكم في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ ثم كان يزري على علماء بغداد؛ لأنهم لا يعملون هذه المناسبات، وقال ابن العربي في بعض كتبه: "ارتباطًا آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة منسقة المعاني منتظمة المباني, علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد وعمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه. فلما لم يجد له حملة ختمناه بيننا وبين الله" ا. هـ.
ورأينا في "كشف الظنون" أن للإمام برهان الدين بن عمر البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥هـ. كتابًا اسمه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" قال: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد، جمع فيه أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول، وكان جل مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض، وقد ألفه في أربع عشرة سنة.
ثم جاء خزانة العلماء المتأخرين، الإمام السيوطي، فعني بهذا العلم في كتابه الذي صنفه في أسرار التنزيل وقال: إن هذا الكتاب كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات. مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة. قال: ثم لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء وسميته: "تناسق الدرر في تناسب السور" وقد وقفنا نحن على هذا الجزء، وهو مخطوط لطيف الحجم يقع في بعض كراريس، وفيه كلام جيد.
وكان نابغة عصرنا الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- كثيرًا ما يعنى في تفسيره بحقائق غريبة من تناسب الآيات وتعلق نظم القرآن بعضه ببعض. وله في ذلك فكر ثاقب ونفاذ عجيب، وبالجملة فإن هذا الإعجاز في معاني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه وهو أبلغ في معناه الإلهي إذا انتبهت إلى أن السور لم تنزل على هذا الترتيب, فكان الأحرى أن لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضًا وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب؛ ولكنه روح من أمر الله تفرق معجزًا، فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولو الألباب.
كتبنا هذا للطبعة الأولى، وقد ظفرت دار الكتب المصرية بكتاب للإمام البقاعي الذي أشرنا إليه آنفًا ورسمت بطبعه، بارك الله للأمة فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>