ويقال إن أول من أظهر هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان غزير المادة في الشريعة والأدب فكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكم في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ ثم كان يزري على علماء بغداد؛ لأنهم لا يعملون هذه المناسبات، وقال ابن العربي في بعض كتبه: "ارتباطًا آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة منسقة المعاني منتظمة المباني, علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد وعمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه. فلما لم يجد له حملة ختمناه بيننا وبين الله" ا. هـ. ورأينا في "كشف الظنون" أن للإمام برهان الدين بن عمر البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥هـ. كتابًا اسمه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" قال: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد، جمع فيه أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول، وكان جل مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض، وقد ألفه في أربع عشرة سنة. ثم جاء خزانة العلماء المتأخرين، الإمام السيوطي، فعني بهذا العلم في كتابه الذي صنفه في أسرار التنزيل وقال: إن هذا الكتاب كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات. مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة. قال: ثم لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء وسميته: "تناسق الدرر في تناسب السور" وقد وقفنا نحن على هذا الجزء، وهو مخطوط لطيف الحجم يقع في بعض كراريس، وفيه كلام جيد. وكان نابغة عصرنا الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- كثيرًا ما يعنى في تفسيره بحقائق غريبة من تناسب الآيات وتعلق نظم القرآن بعضه ببعض. وله في ذلك فكر ثاقب ونفاذ عجيب، وبالجملة فإن هذا الإعجاز في معاني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه وهو أبلغ في معناه الإلهي إذا انتبهت إلى أن السور لم تنزل على هذا الترتيب, فكان الأحرى أن لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضًا وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب؛ ولكنه روح من أمر الله تفرق معجزًا، فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولو الألباب. كتبنا هذا للطبعة الأولى، وقد ظفرت دار الكتب المصرية بكتاب للإمام البقاعي الذي أشرنا إليه آنفًا ورسمت بطبعه، بارك الله للأمة فيها.