للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التركيب معنى آخر، هو الذي يفيض على النفس ويتصل بها فكأنه كلام مداخل وكأن اللغة فيه لغتان.

ثم ما أنت قائل في كلام جاء من الإبداع في التأليف ومن وجوه التفنن في تلوين المعاني بحيث نفى العرب جميعًا عن لغتهم وهم في أرقى ما اتفق لهم من الصور اللغوية، واستبد بها دونهم واستغرق كل ما جاء به من محاسن البيان حتى لم يدع لمن يقابل بينه وبين كلامهم إلا حكمًا واحدًا تنتهي إليه المقالة من أي جهاتها سلك؛ وهو أن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة.

ثم ماذا يبلغ القول من صفة هذا التركيب العجيب، وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستنفد كل ما في العقول البيانية من الفكر، وكل ما في القوى من أسباب البحث؛ كأنما ركب على مقادير العقول والقوى وآلات العلوم وأحوال العصور المغيبة؛ فتراه يتخير من الألفاظ على درجات ليس معنى العجب فيها أن يقع التخير عليها، ولكن العجب أن تستجيب ألفاظه على هذا الوجه المعجز الذي لا يكون في اللغة إلا عن قدرة هي عين القدرة التي ألهمت أهلها الوضع والتعبير وتشقيق الكلام، حتى حصلت لغتهم كاملة في كل ذلك، أي معنى أعجب من أن تتجاذبك معاني الوضع في ألفاظ القرآن فترى اللفظ قارا في موضعه؛ لأنه الأليق في النظم، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى, ومع ذلك الأقوى في الدلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية مما يتقدمه أو يترادف عليه، حتى خرج بذلك كله في تركيب قصر معارضته أن تنتهي إليه بعينه، ولا مثل له إلا ما يتردد منه على لسان قارئه، وحتى خرج التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى من نفس اللغة العربية مخرج الترجمة إلى غيرها من اللغات إذ لم تحمل لغة من لغات الأرض حقيقة ما تعينه ألفاظه على تركيبها المعجز بل هو في ذلك يعجزها جميعًا ويخرج عن طوق أهلها وإن تساندوا فيه، وإنما جهد ما تبلغه تلك اللغات أن تجيء بشبه معانيه، قصدًا في بعضها ومقاربة في بعضها مع الاستعانة بالشرح المبسوط والعبارة الملونة، وعلى أنه ليس ضربًا من ضروب الصناعات اللفظية التي لا يتفق فيها أن تنقل من لغة إلى لغة١.

وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظًا أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه بأعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمة سواء إلا في المعجز الذي يساوي بين القوى في المعجز وهي بعد في ذات بينها مختلفات؟


١ لذلك حرموا ترجمة القرآن إلى اللغات، فإن الترجمة لا تؤديه ألبتة، ولو هي أدت معانيه كما يفهم أهل عصر، بقي منها ما ستفهمه العصور الأخرى. وأشهر وأدق ترجمة للقرآن في اللغة الفرنسية ترجمت فيها هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} فكانت الترجمة هكذا: هن بنطلونات لكم وأنتم بنطلونات لهن.... وكيف لعمري يمكن أن يترجم هذه الكتابة الدقيقة وجه من وجوه إعجاز القرآن للغات العالم كافة.

<<  <  ج: ص:  >  >>