ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ثم لجعلوا من ذلك سببًا لنقض دعوته والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها وأشرف مذاهبها ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء؛ لا يستكره في بيانه معنى، ولا يند في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف ولا يشق عليه منزع، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما ليس منه، والتحيف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع؛ إلى أمثال أخرى لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصًا لا شوب فيه، وكأنما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه. ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرضوا، ولكان ذلك مأثورًا عنهم دائرًا على ألسنتهم، مستفيضًا في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن ولم يستطع أن يقول لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلس حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خلص لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانًا، وأبينهم بيانًا، وخاصة في أول النبوة وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته واطرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعًا وضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافيًا بغيره، كافيًا من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم، و {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .