للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدلالة، فإنا لم نقرأ كل ما كتب عبد الحميد، وابن المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرأنا لهم كثيرًا أو قليلًا، وبعض ذلك في حكم سائره؛ لأن الأسلوب واحد والطريقة واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود، ولم نجد ألبتة في هذا الباب غير أسلوب أفصح العرب صلى الله عليه وسلم فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمينا لك آنفًا، بل تجده قصدًا محكمًا متسايرًا يشد بعضه بعضًا وكأنه صورة روحية لأشد خلق الله طبيعة، وأقواهم نفسًا وأصوبهم رأيًا، وأبلغهم معنى، وأبعدهم نظرًا، وأكرمهم خلقًا؛ وهذا وشبهه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعث عليها الطبع الحديد والخلق الشديد، ويخرجها من كل أمر متكافئة متوازنة، بحيث يظهر أثر النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفس على حدة. ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .

وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين قال له رضي الله عنه: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدبك "أي: علمك"؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" وقوله مثل ذلك لعلي أيضًا، كما سيأتي في موضعه؛ ثم قوله: "أنا أفصح العرب" وما كان من هذا المعنى؛ لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خص الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ الاستحالة راجعة إلى الطبع والجبلة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن يخرق الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمرًا من أمره، وأنى لامرئ بذلك من العرب غير النبي صلى الله عليه وسلم؟

وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا، وإنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامع مجتمع، لا يذهب في الأعم الأغلب إلى الإطالة بل كالتمثال, يأتي مقدرًا في مادته ومعانيه وأسلوب الجمع بينها وربط الصورة بالمعنى كما ستأتي عليه بعد.

وأما الآن فإنا نقول قول أديبنا الجاحظ رحمه الله، فإنه بعد أن وصف هذا الكلام السري بما نقلناه عنه في موضعه خشي أن يظن بعض الناس أنه أفرط على ذلك الوصف، وبالغ في الحمل عليه مما حمل، فقال: ولعل من لم يتسع في العلم، ولا يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره.

"وكلا والذي حرم التزيد عند العلماء. وقبح التكلف عند الحكماء. وبهرج الكذابين عند الفقهاء لا يظن هذا إلا من ضل سعيه".

وإنه لقسم لو تعلمون عظيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>