فأبان واستحكم؛ حتى إذا مر في الكلام أو استفرغت الإطالة مجهوده ونزحت مادته، رأيته يتعثر ويتهافت، ورأيت منطقه وقد صرف عن وجهه واختلط وتهالك من الضعف؛ وما على امرئ إلا أن ينظر في خاصة نفسه وداخلة طبيعته، فإنه ولا ريب مصيب فيها كل ذلك أو كثره أو كثيره.
وهذه كلها عيوب تلحق الفصحاء وتقسم عليهم، لا يكاد يسلم منها أحد، وإنما يأتون من جهة النفس في ضعفها أو اضطرابها أو غفلتها، أو ما أشبه ذلك من حال تعتري وعرق يبزع١، وهي خصال لا تكون لأنفس الأنبياء صلوات الله عليهم، فإذا أضفت إلى ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت، ولم يتكلم في غير حاجة، فإذا تكلم لم يسرد سردًا، بل فصل ورتل وأبان وأحكم، بحيث يخرج كل لفظة وعليها طابعها من النفس، علمت أن هذا المنطق النبوي لا يكون بطبيعة إلا على الوجه الذي بسطناه آنفًا، وأنه بذلك قد جمع خصالًا من إحكام الأداء، لا يشاركه فيها منطق أحد إلى حد، ولا تتوافى إلى غيره ولا تتساوى في سواه.
١ لم نزعم هذا زعمًا ولا أخذناه قياسًا على ما نرى، ولكن في لغة القوم ما يثبته، فهم يقولون: ارتك الرجل وفلان مرتك، إذا رأوه بليغًا ولكنه متى خاصم عيي واستضعف. والمخاصمة من أظهر الأحوال التي تضطرب فيها النفس.