الارتجال؛ لأن شاعر الجاهلية الآخرة ميزان الأحساب، لا يصلح إلا لأن يرفع ويضع، غير أن سبيل هؤلاء [الصنعيين] في غير تلك الطرائق سبيل غيرهم من أهل الطبع، فهم يرتجلون في الحماسة والهجاء وغيرهما.
ثم جاء الإسلام فكانت أسباب الشعر في أوله على ما كانت في أولية العرب؛ إذ كان مثل حسان ينصب له منبر في مؤخر المسجد لينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك مر المخضرمون برونق الطبع ووشي الغريزة، حتى نبغ الحطيئة وهو من هو في الضراعة والجشع وسقوط الهمة، وكان راوية زهير وابنه، فاستعبده الشعر، واستفرغ مجهوده، وكان الأصمعي يسميه هو وزهيرًا وأشباههما "عبيد الشعر" لذلك. ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض الماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل التفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية. وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، وأشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا إنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم نعثر على رواية في ارتجالها بعد المخضرمين إلا ما رواه ابن خلدون عند ذكر استقبال عبد الرحمن الناصر من أمراء الدولة الأموية بالأندلس لرسل الملوك الوافدين من رومة والقسطنطينية وغيرهما؛ قال بعد أن وصف من جلال مجلس الخلافة ما قال: وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل.... وكان من خطباء هذا المجلس منذر بن سعيد "توفي سنة ٣٥٥هـ وهو فقيه شاعر كاتب خطيب جريء على ذلك كله، وقد أورد الجلسة صاحب "نفح الطيب" وفصل أبهة ذلك المجلس، وحالة الخطباء فراجعه هناك "ص١٧١ ج١: نفح الطيب".
ولا يبعد أن يكون في كل عصر من يرتجل مثل ذلك حتى في المتأخرين إلا أنه لا يجيء بالجيد ولا يباري أهل الروية، ومن عجائب ذلك في المتأخرين ما ذكره صاحب "خلاصة الأثر" في ترجمة أبي السماع البصير المصري أنه كان أعجوبة الزمان وأحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر؛ قال: وكانت طريقته إذا أراد الارتجال أن يبدأ بإنشاد قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجي، وفي أثناء إنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحًا كان أو غزلًا أو غيرهما. "ص١٣٩ ج١" ولم نقف على نظير لهذه الرواية إلى عصرنا، ولكن هناك عجيبة أخرى في ارتجال الرسائل ذكرها الثعالبي في "اليتيمة" "ص٣١ ج٤".
أما البديهة فهي عند سببها في كل عصر وزمن، وقد جمع علي بن ظافر كتابًا حسنًا في ذلك سماه "بدائع البدائه" وهو مشهور.
ومن البديهة سريع يقارب الارتجال، وهو الذين تجوز المتأخرون في تسميته بالارتجال، وفي كتب الأدباء أشياء كثيرة منه "كالذخيرة" لابن بسام و"القلائد" وغيرهما.