للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذي يكمن فيه الألم من الموضع الصحيح. ولما قدم النابغة بعد وقعة حسي سأل بني ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم؟ فأنشدوه؛ فقال: أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك؛ ولكني سأقوله؛ ثم قال:

فإن يك عامر قد قال جهلًا ... فإن مطية الجهل السباب

الأبيات "ص١٣٩ ج٢: العمدة" فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شق عليه وقال: ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة؛ جعلني القوم رئيسًا وجعلني النابغة سفيها جاهلًا وتهكم بي!.

ولذلك السبب كان أليق ما يسمى به الهجاء "شعر التاريخ" لأن الهجاءة مؤرخ يذكر مثالب الناس ومناقبهم، ويقص من التاريخ ما يستعين به على إحكام معنى الهجاء؛ حتى إنك لتقرأ كثيرًا من الشعر الذي أثر عنهم في ذلك وفيه ذكر العادات وأخبار من التاريخ فلا تجد فيه شعرًا، حتى إذا عرفت شرحه وتأويله وجدت فيه شعرًا لا يكون ذلك المنظوم إلا إشارة إليه، وذلك كقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:

تحضض يابن القين قيسًا ليجعلوا ... لقومك يومًا مثل يوم الأراقم

كأنك لم تشهد لقيطًا وحاجبًا ... وعمرو بن عمرو إذا دعوا يال دارم

ولم تشهد الجونين والشعب والصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم

وقد أوردها المبرد في كتابه "الكامل" "ص١٣٤ ج١" وشرحها، وعلى هذا التأويل قال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. ومن الهجاء بالعادة قول ابن لسان الحمرة لرجل من بني أسد مر به: قد علمت العرب يا معشر بني أسد أنكم أشدها بياض جعور! فعطف عليه الأسدي فضربه بالسيف حتى برد. وتأويل ذلك أنه عيره بأنهم لا يعرفون البقل ولا يعرفون إلا اللبن؛ لأنهم يقولون إن الجعور قد تبيض إذا كان قوت صاحبها اللبن. وقال الشاعر يهجو ناسًا منهم بذلك "ص٧٥ ج٢: الحيوان":

عراجلة بيض الجعور كأنهم ... بمنعرج الغيطان شهب العناكب

وهذا وإن كان تطرفًا في الهجاء إلا أنه شائع فيهم؛ لأنهم يهجون بكل شيء حتى بأكل الكراث، كما عير به جرير عبد قيس بالبحرين "ص٨١ ج٢: الكامل"؛ وبأكل السخينة، وعيرت بها قريش، وبأكل لحوم الكلاب، وعيرت به بنو أسد؛ وبأكل لحوم الناس أيضًا ... وهجيت به هذيل وأسد وبلعنبر وباهلة "ص١٣٩ ج١: الحيوان"؛ وبكثرة الأكل، وهجيت به تميم.

والأشعار في ذلك مأثورة تفيض بها الكتب.

<<  <  ج: ص:  >  >>