يمدح رجلًا من الأشراف بصفات مثله الصحيحة، والنابغة كان يتكسب من المناذرة والغساسنة، وهم ملوك، فكان يرى النابغة أن مديحهم لا بد أن يكون طبقة في الشعر تساوي طبقتهم في الناس، ولما هرب من النعمان وجعل يعتذر إليه باعتذاراته المشهورة، عمد إلى تجويد المديح وزخرفته ينفخ به كبرياءه فيصغر في جنبها ما أتاه ويتجاوز عنه.
وقد جاء بعدهما الأعشى، فلم تكن له همة إلا في المدح والهجاء، وكان رجلًا مجدودًا في الشعر؛ ما مدح أحدًا إلا رفعه ولا هجا أحدًا إلا وضعه، والأمور يومئذ تطير للشعر طيرانًا؛ فكان الأعشى على التحقيق أول من احترف المديح وابتذله في طبقات الناس؛ ولذلك اضطر أن ينفخ معانيه بالمبالغة والإغراق، وإن تجاوز موضع الحقيقة إلى ما يقع وراءها من نواحي التصور البعيدة؛ وقد عرف العرب ذلك منه وألفوه؛ لأن حظ هذا النوع من الشعر أن يسير وإن كان كذبًا، فإن ركد في لسان الشاعر لم يبالوا به وإن كان حقيقة؛ ولذلك لما نزل الأعشى بمكة وأضافه المحلق -وهو رجل فقير خامل الذكر ذو بنات قد كسدن عليه، وأراد الأعشى إنفاقهن وأن يكفيه أمرهن- أصبح بعكاظ ينشد قصيدة وقد اجتمع الناس "٢٥ ج١: العمدة".
يقول فيها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف. وافتنان هذا الشاعر في صنعة المديح وقصده فيه إلى تصوير الكبرياء الكاذبة، هو الذي طوع له أن يكذب في التاريخ حين نظم قصائده التي ذكر فيها منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وقد كانا تنافرا إلى هرم بن قطبة. فأقاما عنده سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، حتى قدم الأعشى، وكانت لعامر عنده يد؛ فقال شعره في ذلك فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى، والقصة مشهورة "العمدة: ج١ ص٢٨؛ وسرح العيون ص١٠٦" وفيها أقوال ولكن الرواة مجمعون على حكم هذا الأعشى.
وكذلك كذب الحطيئة على التاريخ في مديح قومه، وكانوا من القائمين في أهل الردة، فقال:
فدى لبني نصر طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر
قال المبرد: قوله ذادوا بالرماح أبا بكر، كذب؛ إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فنفرت وفرت "ج١ ص٢٣٢: الكامل" والمعاني تخضع الحقائق وتصرفها فيما شاءت ولكنها لا تخضع التاريخ؛ لأنه في نفسه حقيقة خالدة لا تمسخ ولا تموت، فإذا حاول الشاعر أن يكذب فيه فلا يكون ذلك إلا إذا اعتاد تحويل الحقائق فيمدح كذبًا، ويهجو كذبًا، وذلك من ضرورة الصنعة والاحتراف، فلا يفعله إلا وقد ابتذل الشعر واتخذه حرفة، وذلك ما ذهبنا إليه في أمر الأعشى.
وقد نقلت في فصل "الشعر في القبائل" قول الجاحظ إنه لم تمدح قبيلة في الجاهلية من قريش