طبعه وتنضب مادته بعد ممدوحه الذي اختص به، كأبي الحسن السلامي توفي سنة ٣٩٤هـ شاعر عضد الدولة؛ وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي ووقف بين يدي! فلما توفي تراجع طبعه ورقت حاله ولم ينتفع بنفسه "ص١٦٣ ج٢: يتيمة الدهر" ومثله كثيرون.
ويحسب الناس أن من نقائص شعراء المتأخرين أنهم ينقلون المديح من رجل إلى رجل؛ فيلقون بالقصيدة الواحدة جماعة من الناس، ولكن ابن رشيق يقول إن ذلك كان دأب البحتري؛ وفعله أبو تمام في قصائد معدودة؛ منها:
قدك اتئد أربيت في الغلواء
نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان "ص١١٤ ج٢: العمدة" وإن كان وجه ذلك في المتأخرين العجز عن الشعر فلا نرى له وجهًا في المتقدمين إلا أن يكون إخلاف الأمل في المثوبة والإجازة بالحرمان؛ فيقول قائلهم: هي بنياتي أنكحهن من أشاء!
شعر الكدية أو الشعر الساساني:
الكدية حرفة السائل الملح؛ وهي أيضًا شدة الدهر؛ وكان من شعراء العرب صعاليك وشطار ومتلصصون؛ وأشهرهم عروة بن الورد المعروف بعروة الصعاليك، وتأبط شرا، وسعد بن ناشب؛ ولكن لم يكن فيهم مكدون؛ والفرق بين الحالتين أن الشطارة تبسط اليد قوية عزيزة؛ والكدية بسطها بالسؤال ضارعة ذليلة؛ فلما استفحل التمدن الإسلامي وامتزج العرب بالفرس؛ أخذ خبثاؤهم فيما أخذوه منهم تلك الحرفة؛ ولذلك يسمون بني ساسان كما أخذوا عن الهنود مذهب الخناقين واستعدوا له استعدادًا عجيبًا؛ فانتحله جماعة من أصحاب المنصورية والغالية وغيرهما؛ وقد ذكر الجاحظ من ذلك طرفًا صالحًا "ص٩٧ و٩٨ ج٢: الحيوان" وأورد شعرًا لحماد الراوية يذكر فيه القبائل المشهورة بالخنق لعهده؛ أي: في منتصف القرن الثاني؛ وهي عجل وكندة وبجيلة، فراجعه هناك، ثم نسب هذا الشعر في موضع آخر لأعشى همدان "ص١٩ب ج٦: الحيوان".
أما الكدية فهي عند أهلها كل ما يحتال به على الشر والأذى في سبيل العيش من الشعوذة والمخرفة وما إليهما، ولهم فيها رموز لا يفهمها غيرهم، وأصحابها أهل بأس وشدة وفساد كبير، ولكن من الشعراء من كان يقبل على هذه الحرفة لا يبغي بها بدلًا من عرض الحياة ووفرة الغنى وإقبال الأمراء، ومنهم من كان يحفظ رموزها تطرفًا وتملحًا، ونظن أنهم لم يظهروا بها إلا في القرن الرابع، وأشهرهم في ذلك الأحنف العكبري، وكان فرد بني ساسان بمدينة السلام، وهو من جماعة الصاحب بن عباد "ص٢٨٥ ج٢: يتيمة الدهر". وكان من شعرائه فيها أيضًا أبو دلف الخزرجي الينبوعي، قال الثعالبي فيه: شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الكدية، خنق التسعين في الأطراب والاغتراب، وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالحراب.... قال: وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظًا عجيبًا، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكالنا يتجاذبان أهدابها، ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية