جهة ما هجا به صاحبه، قال الجاحظ: فافهم هذه، فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يهجون به، وهذا باطل، فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين؛ وإذا ذموا ذكروا أقبح الوجهين "ص٥٧ ج٥: الحيوان". ويدخل في هذا النوع باب العيوب الخلقية كالبرص فإنهم يهجون به، ولكن من ابتلي به من شعرائهم ضرب له المثل الذي يستغرقه ويشغل عنه كقول ابن حبناء:
إني امرؤ حنظلي حين تنسبني ... لا من عتيك ولا أخوالي العوق
لا تحسبن بياضًا في منقصة ... إن اللهاميم في أقرانها البلق
"ص٥٤ ج٥: الحيوان".
وقس على ذلك، فهذا المدح المصنوع، ولكن عذرهم فيه أنهم اضطروا إليه فرارًا من معنى الهجاء، ومن هذه الجهة اكتسب معنى المديح.
فكيفما أدرنا القول لا نجد هذا الباب خالصًا عند العرب غير مقصود به إلا صنعة الكلام وحدها كما يفعل المولدون، ولذلك لم يغلب هذا النوع على قول الشاعر منهم كما يغلب المديح الهجاء والوصف، بل لم يكد يتميز به بعضهم على بعض؛ واعتبر ذلك بالأبيات التي يعدونها أفخر الشعر، وقد روى منها ابن رشيق طائفة، فإنك لا تجد لجاهلي بيتًا يبرعها أو يكون منها بمنزلة في الصنعة، وإنما تجد أكثر ذلك الإسلاميين والمولدين.
أما الإسلاميون فقد شاع الفخر في أيامهم، للخلافات التي كانت بين بني هشام وبني أمية، وبين هؤلاء وبني العباس، ولكنه بني على الهجاء كما مر في منافرات العرب، ولذلك استغرقته الخطب والكتب ولم تكن سهمة الشعر منه إلا القليل؛ وكان منهم من يغري بين الوجوه من الناس وبين العلماء بالأنساب، يحب أن يعرف حالات الناس وعيوب الأشراف، كعبد الله بن عامر، ومصعب بن الزبير، قال الجاحظ: فلا جرم أنهما كانا إذا سبا أوجعا "ج١: البيان" وسنلم بشيء من هذا الباب في بحث الخطابة.
وكان فيهم قوم متميزون دون سائر القبائل بالكبر، أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولم يكن في قوى عقولهم وديانتهم فضل على قوى دواعي الحمية فيهم، وهم من قريش بنو مخزوم، وبنو أمية. ومن العرب بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس خاصة "ص٢١؛ ٢٢ ج٦: الحيوان" فلا جرم كان من هؤلاء ديوان مفرد لمعاني الفخر والحماسة، وقد ذهب بشهرة الفخر في الإسلاميين من الشعراء جرير والفرزدق؛ لذهابهما بشهرة الهجاء.
أما في المولدين فالذين برعوا في صنعة الفخر والحماسة كثيرون، وقد صارت الإجادة في ذلك على حسب قوة الشاعر وبمقدار ما تؤتي القريحة من التصرف؛ لأن هذا الشعر لا يصنع لرغبة ولا لرهبة وليس وراء معانيه ظل، فلا يجيده إلا مجيد، ولكن شهرته أكثر ما تعلق بالأمراء والشجعان وأهل النسب؛ كالشريف الرضي، وهم يقصدون إلى هذا النوع في شعرهم قصدًا، ويتخذون منه لسانًا للسياسة والتاريخ. ثم هو شيء في طباعهم، لا يتكلفون منه الكثير كما يفعل من دونهم، ولذلك لا