للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجهولة مما لا يعرفونه عيانًا ولا يخالطون صفته بالحقيقة التي تعرفها المشاهدة. وقد أسلفنا أن العرب كانوا علماء في أشعارهم، فسبيل هذه الأشعار عندنا سبيل كل علم يحتاج إلى درس وتلقين، وإلى الأخذ عن أهله أو القوام عليه. قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب.

وعلى ما رواه من تلك الأشعار بنى أكثر ما في كتابه "الحيوان" وإن كان قد ترك فيه تفسير شواهد كثيرة مما لا يعرفه إلا الرواة، للتحرز من خوف التطويل كما قال١:

وحتى ذكر في الجزء السادس من هذا الكتاب أنه لم يجعل لما تسكن الملح والعذوبة والأنهار والأودية والمناقع من السمك وما يعيش معه بابًا مجردًا؛ لأنه لم يجد في أكثره شعرًا يجمع الشاهد ويوثق منه بحسن الوصف "ص٦ ج٦". ومما نبه عليه في ذلك الكتاب مما يعد فيما نحن بسبيله، أن شعراء العرب قد تواضعوا في صفتهم قتال الكلاب وبقر الوحش على أنه إذا كان الشعر مرثية وموعظة، جعلوا الكلاب هي التي تقتل البقر، وإذا كان الشعر مديحًا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا، أن تكون الكلاب هي المقتولة، ليس على أن ذلك حكاية عن قصته بعينها، ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها؛ وأما في أكثر من ذلك فإنها تكون هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة. نبه على ذلك الجاحظ "ص٨ ج٢: الحيوان".

ثم إن شعر العرب إنما بقي من بعدهم للحاجة إلى ألفاظه لا إلى معانيه، إذ هو مادة الشاهد والمثل في العلوم الدينية واللسانية، وكان الرواة لا يطلبون منه أكثر من ذلك، كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات، فهم من أجل هذا يروونه على ما هو لا يبالون وافقت ألفاظه المعاني المألوفة في عصورهم أو خالفت، فتلك في جانب بعيد من الغرض الذي يستهدفونه؛ وهذا معنى قول ابن فارس: قد يكون شاعر أشعر وشعر أحلى وأظرف، فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا، وبكل يحتج وإلى كل يحتاج "ص٢٣٥ ج٢: المزهر".

هذا سبب ما تجده من خشونة الشعر الجاهلي.

أما السبب في أن العرب لم ينظروا في تصفية معانيهم ونحت ألفاظهم الشعرية حتى تخرج رقيقة تتهالك ونحيفة لا تتمالك، فذلك راجع إلى فطرة الاستقلال وحالة البداوة، فإن شئت قلت إن ألفاظهم إنما تقطر من سيوفهم أو تسيل من رماحهم أو تجدب في رمالهم أو تخصب في أوديتهم أو تدب في حشراتهم أو تسعى مع دوابهم أو تعذب في أمطارهم أو تأنس في غدرانهم، ولكنك لا تستطيع أن


١ قرأنا في شرح بغية الوعاة للسيوطي في ترجمة أبي بكر الخياط الأصبهاني النحوي أوحد أهل زمانه في النحو ورواية الشعر: أن أبا الفضل ابن العميد قدم له يومًا نعله فاستشرف منه ذلك فقال أبو الفضل: ألام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئًا من الطبائع للجاحظ إلا عرف ديوان قائله وقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها حتى ينتهي إليه "ص٣٢١: بغية الوعاة".

<<  <  ج: ص:  >  >>