وكان عبد الرحمن مولعًا بالسماع، مؤثرًا له على جميع لذاته، حتى إنه كان يبتاع المحسنات من الآفاق، فاشتريت له من المدينة فضل المدنية التي كانت لإحدى بنات هارون الرشيد، مع صاحبتها علم؛ وصواحب غيرهما، فأنشأ لهن دارا بقصره سماها دار المدنيات، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن وأدبهن، وكان من جواريه أيضًا قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عنده، وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الآداب، وهي أندلسية الأصل حملت صبية إلى المشرق وتعلمت بالمدينة "ص١١٨ ج٢: نفح الطيب" ومن الجواري اللاتي كن يتصرفن بين يديه منفعة، جارية زرياب التي علمها أحسن أغانيه ثم أهداها له؛ وكان في زمنه أيضًا من الحاذقات بالغناء حمدونة وعلية ابنتا زرياب، ومصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن فلهيل "ص١١٤ ج٢: نفح الطيب" وغيرهن؛ حتى ليكاد يكون زمن هذا الأمير نسائيا. وممن استهتر بهن من جواريه: مدثرة، والشفاء، وطروب، وقد بنى الباب على هذه الأخيرة مرة ببدر الأموال، وكانت غاضبة ثم استرضاها على أن لها جميع ما سد به الباب "ص١٦٣ ج١: نفح الطيب".
وتولى بعد الأمير عبد الرحمن محمد ابنه من سنة ٢٣٨هـ إلى سنة ٢٧٣هـ، وكان كثير الغزوات فلم يعرف في عهده تاريخ الأدب على حقيقة بينة، بل استمر أهل الأندلس على ما اعتادوا زمن أبيه، ولكن كان من أخص شعرائه مؤمن بن سعيد؛ وكان من أعظم الفلاسفة لعهده عباس بن فرناس الحكيم -وسنذكره في موضع آخر- وله فيه شعر أورده صاحب "العقد الفريد"؛ ثم اهتز حبل الفتن بعده في ولاية ابنة المنذر، وكانت سنتين إلا نصف شهر سنة ٢٧٥هـ؛ وفي زمن عبد الله أخي المنذر اضطربت نواحي الأندلس بالثوار والمتغلبين في تلك السنين، وكان عبد الله شاعرا محسنًا إلا أنه زاهد تقي صحيح الإيمان، وفي زمنه نشأ الفقيه الأديب ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، وهو ويحيى الغزال طرفا الأدب في القرن الثالث، وتوفي عبد الله سنة ٣٠٠هـ، وكان وزيره النضر بن سلمة الكاتب المحسن.
ومما امتاز به هذا القرن دخول رسائل المحدثين وأشعارهم في أواخره إلى أفريقية ثم الأندلس على يد أبي اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني المعروف بالرياضي من أهل بغداد وسكن القيروان وكتب لأمير أفريقية إبراهيم بن أحمد الأغلب، ثم لابنه أبي العباس عبد الله، وقد لقي الجاحظ والمبرد وثعلب وابن قتيبة الأدباء، وأبا تمام والبحتري ودعبلًا وابن الجهم الشعراء، وسعيد بن حميد وسليمان بن وهب، وأحمد بن أبي طاهر الكتاب، وغيرهم. وتوفي بالقيروان سنة ٢٩٨هـ.
وكذلك دخول كثير من كتب اللغة ودواوين شعر الجاهلية على يد محمد بن عبد السلام بن ثعلبة المتوفى سنة ٢٨٦هـ فقد دخل البصرة ولقي بها أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج والرياشي وأبا إسحاق الزيادي، فأخذ عنهم رواية عن الأصمعي وغيره، ودخل بغداد وسمع من أئمتها، ثم انقلب إلى قرطبة. "ص٦٧: بغية الوعاة".
ثم اختراع التوشيح وقد استوفينا الكلام عنه في موضعه.