لا تصرفه عن هذه المبادئ ما دامت قوتها لفظية؛ ومن أجل ذلك حاول بعد هؤلاء ريمون مارتيني أن يضرب اليقين بالشك ويدخل إلى تلك القلوب من بعض جوانبها، فجعل ينشر كتب الغزالي للرد على فلسفة ابن سينا وابن رشد، ثم تتابع جيل دي ليسين وبرنار دي تريليا وهرفه نديليك ودانت الشاعر الإيطالي المشهور صاحب "رواية الجحيم" وجبل دي روم، وهو الذي بلغ في ذلك قريبًا من القديس توما، وجاء بعدهم الأرعن الأخرق ريمون لول الذي صرف عمره خصوصًا من سنة ١٣١٠م إلى سنة ١٣١٢م في التجوال بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوى ونابولي وبيزه، محرضًا الناس على ازدراء العرب ونبذ فلسفتهم، حتى إنه لما اجتمع مجمع فيينا سنة ١٣١١م رفع إلى الباب اكليمنضس الخامس كتابة يقترح فيها إنشاء مجتمع يخول من السلطة ما يساعد على إسقاط الإسلام وإقامة كليات لدرس اللغة العربية وحرم المسيحيين الذي ينتصرون لفلسفة ابن رشد وطرح كتبه من المدارس الأوروبية!
وفي هذا القرن الرابع عشر كانت كتب ابن رشد قد انتشرت في أوروبا، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى غطت عندهم عى ابن سينا وأخملت من شهرته بعد أن كان هو المتميز في القرن الثالث عشر، ثم أصبحت تلك الفلسفة في القرن الخامس عشر وهي روح العلم الطبيعي في أوروبا، وذلك بعد أن صارت من الدروس الحافلة في كلية بادو المشهورة بإيطاليا التي استتبعت حركة الفلسفة الأوروبية يومئذ، وأول ناشري تعاليم ابن رشد فيها بطرس دانوا الذي لم يجد ديوان التفتيش سبيلًا إلى عقابه إلا بحرق عظامه من بعده.
وقد شرح أساتذة هذه الكلية فلسفة الحكيم القرطبي، ونبغ فيها منهم كثيرون أكسبوها الاحترام وعلو الرأي؛ ولا جرم أنهم بذلك قد رفعوا أنفسهم أيضًا.
ولما أراد ليوس الحادي عشر ملك فرنسا، إصلاح التعليم الفلسفي في سنة ١٤٧٣م، طلب من أساتذة المدارس تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه استثبت فائدة هذا الشرح وأيقن بصحته.