للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تكون الإشارة للبغل كما يفعل [المُكارون] عندنا حين يستحثون الدابة فيطبقون الفكين ويقرعون بطرف اللسان على الثنايا السفلى.

ولا بد لتمام الحسن في هذا النوع أن يكون البيت موقوفًا بمعناه على الحركة أو الإشارة في القافية، وإلا انصرف عنه الذهن وجاءت الطبيعة فيه تابعة فكان ذلك مما يكسبه معنى سخيفًا ويحيله عن وجه الإبداع فيه، إذ تكون الإشارة في مثل ذلك عيا لا بيانًا.

ولا تبلغ مثل هذه القوافي أن تكون اختراعًا في الصناعة؛ لأنها لا يحسن في كل حال، وإنما يقضي بها سبب من الأسباب أيها كان، وما لا يحسن أن يجيء إلا بسبب يقبح إذا جاء من غير سبب، على أنه شيء طبيعي مبذول يتناوله كل من بعث عليه فلا معنى فيه لحقيقة الاختراع، ولعلك إذا تتبعت مواقع ذلك في الشعر رأيت كثيرًا منه يصلح أن تكون قوافيه حسية، ولكن الصعوبة في أن تكون هذه القوافي الحسية موزونة حركاتها على الأوزان التي تقابلها من العروض، وهذا هو وجه الصنعة الغريبة فيما تقدم.

ههنا بديعة أخرى، وهي ما يروى من أن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل كان إذا مدح لا ينظر إلى وجه مادحه، فتلطف ابن مطروح الصاحب جمال الدين الشاعر المتوفى سنة ٦٤٩هـ وعمل قصيدة بنى قافيتها على الإشارة فكان كلما انتهى إلى قافيته أشار بما يدل عليها فنظر إليه الملك، ومن هذه القصيدة قوله:

تعشقت ظبيًا وجهه مشرق كذا ... إذا ماس خلت الغصن من قده كذا

له مقلة كحلاء نجلاء إن رنت ... رمت اسمها في قلب عاشقه كذا

وهذا النوع من الإشارة وارد بعضه في الحديث الشريف كقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت والساعة كهذين" وهو كذلك شائع في كثير من الكلام؛ ومن أعجبه أنه لما اجتمع الناس عند معاوية بن أبي سفيان وقامت الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة، قام رجل يقال له يزيد بن المقنع، فاخترط من سيفه شبرًا ثم قال: هذا أمير المؤمنين "وأشار بيده إلى معاوية" فإن مات فهذا "وأشار بيده إلى يزيد" فمن أبى فهذا "وأشار بيده إلى سيفه" فقال معاوية: أنت سيد الخطباء!

<<  <  ج: ص:  >  >>