يبدأ المشهد اللغوي بجزيرة العرب، نجد والحجاز ومنطقة الفرات، في القرن الخامس والسادس الميلاديين، وقد انتظمتها لهجاتٌ محلية متعددة، تتحدث بها قبائل متفرقة أدى بها اتساع الصحراء إلى عزلةٍ نسبية، ولما كانت تلك القبائل على عزلتها تتبادل التجارة وتتلاقى في الحج والأسواق والندوات، كان لا بد من وجود لغةٍ «مشتركة» يتفاهم بها الناس جميعًا على اختلاف قبائلهم، كانت مكة، أم القرى، هي مهوى الأفئدة وملتقى الحج والتجارة وأسواق الخطابة والشعر، وقد كفل لها نشاطها التجاري وثراؤها الاقتصادي ارتقاءً حضاريًّا وسلطانًا سياسيًّا؛ الأمر الذي جعل اللهجة القُرَشية هي اللهجة الغالبة في تكوين اللغة المشتركة، وإن لم تتطابق معها تمام التطابق، هذه الفصحى المشتركة هي التي يتخذها الخطباء والشعراء، وهي التي تُكتب بها المعاهدات وتُتخذ في مواقف الوفادة والتشاور والحروب والعبادة، وقد نزل بها القرآن الكريم ليفهمه العرب جميعًا على اختلاف لهجاتهم المحلية، وبذلك سادت المشتركة واستتبت وازدهرت وارتقت ارتقاءً عظيمًا.
نحن إذن بإزاء مستويين لغويين متباينين: المستوى اللهجي من جهة، ومستوى الفصحى أو المشتركة من جهة أخرى، ومن العبث وإهدار الطاقة أن نسأل الآن أيهما السابق على الآخر: أهي لهجاتٌ تبلورت منها المشتركة (مرتكزةً كثيرًا على لهجة قريش)؟ أم هي المشتركة تفرعت عنها اللهجات شأنها شأن غيرها من اللغات الكبرى كاللاتينية والجرمانية؟ ذلك أمرٌ مختلطٌ ملتبس غامض يثير فيضًا من الحدوس والتخمينات والفروض، ولا يؤدي إلى نتائج حاسمةٍ صلبة.
ثمة موقفان متمايزان أمام الباحث في أمر العلاقة بين المشتركة واللهجات:
الموقف الأول: أن يَعتبِر كلًّا منهما مستوًى خاصًّا ولا يخلط بينهما بالرغم من إدراكه للتأثير المتبادل بينهما؛ فكل لهجة مستوًى خاصٌّ ينبغي ألا يختلط بغيره من اللهجات ولا بالمشتركة، كل لهجة مستوًى متفرد في دلالة الألفاظ وفي الأصوات والصيغ والتراكيب.
والموقف الثاني: أن يعتبر المشتركة هي اللهجات نفسها، فتكون المشتركة (الفصحى) هي المجموع الجبري ل «لغة قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.»
الموقف الأول هو الموقف العلمي الصحيح (ما ينبغي أن يكون)، ولقد راود بعضَ النحاة على نحوٍ عارضٍ لا يشكل اتجاهًا أو منهجًا، والموقف الثاني هو الموقف الخاطئ