للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المخلِّدة لذاتها» أو «المحقِّقة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحكم تكوينه يجد صعوبةً في «معالجة» Processing الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة. (١)

[(٦) الجرجاني يومئ إلى مبدأ اعتباطية العلامة]

لا نعدم من علماء العربية القدامى من نظر إلى اللغة نظرةً أعمق، واستكْنه جوهر الظاهرة اللغوية، وتفطَّن إلى اعتباطية العلامة اللغوية بحد ذاتها؛ فهذا عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» يقول في مفتَتح الفصل الثالث: «ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بين قولنا حروف منظومة وكلم منظومة؛ وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط وليس نظمها بمقتضًى عن معنًى (أي ليس واجبًا لمعنًى اقتضاه) ولا الناظم لها بمقتفٍ في ذلك رسمًا من العقل اقتضى أن يتحرَّى في نظمه لها ما تحراه. فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك؛ لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق … »، ويقول بمعرض بيان الإعجاز في نظم الكلم لا في الكلم ذاته: «فقد اتضح إذن اتضاحًا لا يدع للشك مجالًا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة، وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضعٍ آخر … » (٢) كان الجرجاني حقًّا ثاقب الفهم لطبيعة الظاهرة اللغوية، ومستبقًا لكثير من أفكار دي سوسير وفتجنشتين وسواهما.

يقول الجرجاني في الفصل قبل الأخير من «الدلائل»: «اعلم أن ها هنا أصلًا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من


(١) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)، في: «المغالطات المنطقية»، مرجع سابق، ص ١٧٩ - ١٨٥.
(٢) دلائل الإعجاز، ص ٤٨ - ٤٩.

<<  <   >  >>