للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[(١) تردد ابن جني بين الاصطلاح والتوقيف]

ولعل ابن جني هو خير من يعكس لنا حيرة فقيه اللغة في ذلك الزمن بين التوقيف والاصطلاح، وقد سجل تردده في غير موضع من «الخصائص»، يقول ابن جني في «باب القول على أصل اللغة إلهامٌ هي أم اصطلاح»: «هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، إلا أن أبا علي رحمه الله، قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أَقْدَرَ آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة، فإذا كان ذلك محتملًا غير مستنكَر سقط الاستدلال به … ثم لنعدْ فلنقلْ في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيًا، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، قالوا: كأن يجتمع حكمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سمةً ولفظًا، إذا ذُكر عُرف به ما مسماه، ليمتاز من غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مَرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره، لبلوغ الغرض في إبانة حاله … فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم، فأومَئوا إليه، وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيَّ وقت سُمع هذا اللفظ عُلم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك، فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك، فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معناها، وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجهٌ صالح، ومذهبٌ متقبَّل، واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري؛ وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليَّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السِّحر …

وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحي، ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا،

<<  <   >  >>